وامضاياه..

49

عندما يصل الإنسان إلى مرحلة من النضج الفكري والعلمي والاجتماعي، يستطيع أن يحدد مبادئه وثوابته بوضوح، تبقى بعض القناعات قابلة للتغيير وفق عوامل مختلفة، ولكن أن تستيقظ يوماً وأنت تعرف وتعتقد أن هناك مبادئ وثوابت راسخة كالجبال أصبحت مبعثرة ومتطايرة، فهذا يجلب لك الفزع ويقتلع شعور الآمان بداخلك.

انتابني مزيج من مشاعر الفزع والعجز وأنا أشاهد – كما يشاهد غيري في العالم – الصورة المؤلمة لضحايا مجاعة مضايا السورية المتواصلة والمستمرة.

ففي منتصف شهر كانون الأول (يناير) الماضي، وبعد جهود كبيرة، ومناشدات إنسانية طويلة، تمكنت بعض المساعدات من الدخول إلى بلدة مضايا السورية، لتقديم الدواء والغذاء لأهلها المحاصرين من قوات نظام الأسد، وحزب الله اللبناني.

كان واضحاً أن تلك المساعدات غير كافية، وأنها يجب أن تستمر بالتدفق على البلدة المنكوبة، لإنقاذ، على الأقل، حياة الأطفال وكبار السن، إلا أن الحصار استمر على البلدة بشكل أشد وأقوى، ما نتج منه موت كثير من الأبرياء؛ نتيجة الجوع، وعدم وجود مساعدة طبية للمرضى.

وهو ما دفع منظمة مثل أطباء بلا حدود، لإصدار بيان مؤثر قالت خلاله أن هناك العشرات ممن توفوا بسبب الجوع، وأن هناك حالات سوء في التغذية قدرتها بنحو 320 حالة بينهم، 33 يعانون سوء تغذية حاد، ما يضعهم تحت خطر الموت، ومن دون شك أن الأطفال والعجزة هم الأكثر وجعاً وموتاً.

40 ألف يعانون الحصار والتجويع والإبادة، والعالم الذي نعتبره متحضراً، والذي أوهمنا ورسخ لدينا أن مبادئ الإنسانية هي السائدة في القوانين والأعراف الدولية في السلم والحرب، وأنها وجدت لتحافظ على الحد الأدنى من إنسانية الإنسان تحت كل ظرف ومكان.

صدقنا هذه الثوابت وأصبحنا نسخر من الحروب الهمجية التي كانت تحدث في الأزمة الغابرة والعصور الوسطى، ولا نفتأ عن المفاخرة أننا نعيش في عصر أكثر إنسانية، ولكن أعتذر لنفسي قبل أن أعتذر لأهل مضايا نساءها وأطفالها وشيوخها، الذين يموتون يومياً من الجوع أمام مرأى العالم المتحضر المصاب بالتخمة، أعتذر لأني كنت ساذجتاً وكنت أعتقد أن تلك المجتمعات التي تقيم الدنيا ولا تقعدها لإنقاذ قطة أو كلب في مأزق لن ترضى مشاعرهم المرهفة بأن يروا منظر أهل مضايا ووهنهم وأن يشهدوا كيف حتى تنسل أرواحهم بين أضلاعهم الهزيلة ويقفون بلا حراك.

أعتذر يا مضايا فصدمتك في هذا العالم المسمى المتحضر لا تقل عن صدمتي به، أنني أستطيع أن أفكر بهذا الخذلان وأنا أتناول قهوتي الساخنة، في حين أنتم لا تستطيعون من الإعياء فهم كذب وازدواجية قوانين عالمنا المعاصر، التي غدت تشبه حيوان الكامليون (الحربا) تتلون بحسب المكان الذي تكون فيه وبحسب غايتها وحاجتها ومصلحتها. ما أسهل التلويح بشعارات الإنسانية، وما أعلى الأصوات التي تدعوا وتدافع لحقوق الإنسان، وما أخبث تلك الأصوات التي تطالب بحقوق المرأة ومناصرتها عندما تستدعي الحاجة أو عندما يكون وراؤها مصلحة.

ولكن هذه الأصوات أصابها الخرس، وعيونهم أصابها العمى، وضمائرهم أصابتها الوفاة، وأحاسيسهم أصابتها البلادة والتحجر، وهم يرون ما يحدث من دون أن يحركوا ساكناً.

الأنظمة الدكتاتورية ستنتهي، ولعل الذين سيضلون من أهل مضايا على قيد الحياة سيتحدثون عما حدث لهم، صور مأساتهم الإنسانية ستبقى لتشهد على نفاق ضمير العالم المتحضر، وسيكتب التاريخ فصلاً أسوداً عن كل من تقاعس ممن يدّعون الإنسانية ويطالبون بحقوق الشعوب العادلة من دون الإحساس بالألم لمن يموتون جوعاً كل يوم.

خولة الكريع

المصدر: الحياة