«الربيع» الشعبى العربى و«لعبة الأمم»

55

مسيرة السيد عبدالعزيز بوتفليقة السياسيّة فى تاريخ بلاده تستحق التقدير. لكن ترشّحه لولاية رئاسيّة جديدة فى حالته الصحيّة الراهنة ليس معقولا. هذا الاستخفاف بمشاعر الجزائريين جلب انتفاضة شعبيّة عارمة. واللافت أنّ جهاز السلطة الذى كان يحيط به لم يقاوم الانتفاضة الشعبيّة ولم يقمع التظاهرات، بل شرع الجيش، مع جزءٍ من السلطة، بتغييرات سياسية كبرى لا تُعرَف حتّى الآن مآلاتها النهائية. بالتوازى لم يعُد معقولا بعد انفصال الجنوب ومشاركة السودان فى حرب «التحالف» على اليمن أن تبقى البلاد بقيادة فرضت الولايات المتحدة، عليها وعلى الشعب السودانيّ، عقوبات اقتصادية وسياسية قاسية، مع فقدان السلطة أصلا للشرعيّة الشعبيّة. لقد انتفض الشعب السودانى، دون مقاومةٍ تُذكر، ليفرض تغييرات تبقى مآلاتها النهائيّة غير واضحةٍ أيضا. 

لم يكن كثيرون يتوقّعون أن تعود موجة «الربيع العربى» من جديد، وخاصّة فى هذين البلدين بالذات مع ما عاشاه من مآسٍ داخليّة فى فترات قريبة وما تركته هذه المآسى ومسارات «ربيع» البلدان الأخرى من مخاوف من تحوّل «الربيع» إلى «خريف». إلاّ أنّ هذين البلدين يتشاركان مع بقيّة البلدان العربية غير النفطيّة جذور «الربيع» الاجتماعية ــ الاقتصادية، ويعرفان أيضا الانفصام بين السلطة السياسيّة والشعب. أضِف أنّ الفترة التاريخيّة الراهنة ما زالت تتميّز برغبة بعض الدول الإقليميّة الجارفة فى تصدير نفوذها، عربيّة كانت أم غير عربيّة. هكذا بات «صراع الأمم» على المنطقة كارثيّا فى ظلّ الإدارة الأمريكيّة الحالية وتحالفها، الأكثر عضويّةً، مع إسرائيل وجنوحها إلى تغيير خريطة العالم العربى. هذا إذا ما بقى هناك ما هو «عربى» فى ظلّ «صفقة القرن» وما أتت به حتّى الآن على القدس وغزّة والجولان وما ستأتى به من زلزلة قادمة عبر تصفية القضيّة الفلسطينيّة. 
***
تطرح انتفاضات الجزائر والسودان، وتطورّات البلدان التى شملتها موجة الربيع الأولى والزلازل القادمة، أسئلة أساسيّة حول طبيعة الدول العربيّة ومناعتها ومرونة تأقلمها مع صدمات داخليّة وخارجيّة كبرى. والمقصود بالدولة هنا هو الكيان الذى استمرّ منذ نهاية فترة الاستعمار المباشر وكذلك مؤسسات الدولة التى تدير شئون مواطنيها بمفهومها العريض. 

فالدول التى تشهد هزّات كبرى فى عقدها الاجتماعيّ تضحى عُرضةً لتدخّلاتٍ خارجيّة تلعب على تناقضاتها الداخليّة، وتحوّل «ثوراتها» إلى «مؤامرات». تأتى هذه التدخّلات بحلّة إعلاميّة وماليّة وأمنيّة و«دبلوماسيّة». ويُمكن لها، ولتصارع المصالح فى ظلّ «لعبة الأمم»، أن تدفع بهويّات فرعيّة، مذهبيّة أو عقائديّة، إلى رفع سقف مطالباتها بعيدا عن توافقٍ اجتماعيّ يُبقى على وحدة الكيان. تدخّلات تمتحن الوعى الاجتماعيّ والثقافة الشعبيّة والتنظيمات السياسيّة فى مدى عمق صلابة تمسّك الجميع بالحفاظ على الكيان الموحّد وتقديمه على المصالح أو المظالم الفئويّة مهما كانت محقّة. وواضحٌ أنّ مناعة الكيان تبقى أكبر طالما ظّلت المطالبات والتظاهرات سلميّة لم تُرَق فى سبيلها وحولها دماء تتحوّل إلى موضوع ثأرٍ قبليّ موروث. 

من ناحية أخرى، تشهد تجربتا الجزائر والسودان الأخيرتان أنّ التغيير، حتّى لو كان تعبيرا عن رغبة شعبيّة جارفة، لا يُمكن أن يحدث سوى من خلال وقوف مؤسّسات رئيسيّة فى الدولة، وخاصّة الجيش، مع هذا التغيير. والتحدّى الكبير فى المواجهات بين الانتفاضات الشعبيّة والسلطة السياسيّة ومؤسسّة الجيش أنّها لا تجرى بمعزل عن التدخّلات الخارجيّة و«لعبة الأمم». إذ مهما كانت مشروعيّة وصدق المطالبات الشعبيّة فإنّ القوى الخارجيّة التى تبحث عن النفوذ ستقوم بالتلاعب فى توجهاتها إعلاميّا وعبر وسائل التواصل الاجتماعيّ. بل ستحاول دفعها نحو السلاح والحرب الأهليّة، كما حدث فى سوريا واليمن وليبيا. كما أنّ هذه التدخّلات تسعى دوما لاختراق المؤسسة العسكريّة، وإيجاد حلفاء أقوياء لها ضمنها، لتمرير مشاريعها البعيدة عموما عمّا يُمكن أن تقبله الشعوب. كان ذلك جليّا فى خمسينيات القرن الماضى من خلال مسلسلات الانقلابات التى شهدتها البلدان العربيّة. 
بالتالى تواجه أيّة محاولة تغيير شعبيّة ضدّ الاستبداد مخاطر القمع الدمويّ كما مخاطر تفرّد الجيش بالسلطة السياسيّة أو حتّى الدفع نحو نمط نظام غلافه ديمقراطيّ وجوهره فساد المال السياسيّ، الداخليّ عبر السيطرة على الموارد أو الخارجيّ. هذا أيضا امتحانٌ كبير للوعى الاجتماعيّ والثقافة الشعبيّة والتنظيمات السياسيّة فيما يخصّ مدى وجوهر وعمق صلابة تمسّكهم بمؤسسات الدولة وتأثيرهم عليها. 

وفى الحقيقة، لا يوجد حلّ سحريّ لمواجهة هذه التحديات مع تفجّر «التسونامى الشبابى» فى البلدان العربيّة وتفرّد سلطات سياسيّة بالحكم لعقودٍ طويلة دون أن تأبه لا بخلق منعة للكيان ولا بتأسيس عمق ومرونة لمؤسسّات الدولة ولا بدفع بلادها نحو تنمية اقتصادية تلبّى طموحات أهلها. إنّ القائمين على مسارات «لعبة الأمم» يعرفون جيدّا مواطن الضعف التى تشكّل فرصةً لفرض «استعمارٍ» من نوعٍ حديث. تحديات تكمُن فى أن تذهب المطالبة بالحريّة والكرامة إلى تعميق الخلافات الداخليّة والعربيّة وتقسيم الدول وشرذمة المنطقة وتصفية القضية الفلسطينيّة، على الأغلب فى ظلّ استبدادٍ جديد. 
***
المفارقة الكبرى هى أنّ شعوب البلدان العربيّة ودولها كانت فى خمسينيات وستينيات القرن الماضى أكثر مناعةً من اليوم رغم ضعفها الهيكليّ حينها. كانت شعوبها تتوحّد داخليّا من أجل مقارعة الاستعمار فى بلادها كما فى بلدانٍ عربيّة أخرى مثلما تضامنت مع ثورة الجزائر وخلال العدوان الثلاثيّ. وطمِحَت لتحقيق هويّة تتخطّى حدودها وتجمع القوى بدل أن تهلك نفسها فى المخاوف والصراعات الطائفيّة والفئويّة. وكانت قواها السياسيّة تتأصّل فى مجتمعاتها وفى توجّهات شبابها أكثر بكثير ممّا هو الحال لقوى الواقع اليوم. الجامعة العربيّة، رغم هشاشة مؤسساتها، كانت تواجه الأزمات بين دولها وتحتويها وتجمع كلمتها على قضايا التحرّر من الاستعمار والقضيّة الفلسطينيّة مهما كانت حدّة الخلافات. 

أمّا اليوم فالشعوب تبحث عن بعض الحرية والكرامة مهما كان الثمن. لقد أنهكها الاستبداد وسلطاته والتزمّت وآفاته وفقدان الأمل بالمستقبل واحتواء اللاجئين وفساد السلطات القائمة وإفسادها لمؤسسات الدولة والصراعات بين الدول العربيّة التى أضحت جميعها، حتّى تلك التى لم تشهد حتّى اليوم انتفاضات شعبيّة، قليلة المنعة. 
إنّ الارتباط بين التحديات الكبيرة الداخلية والخارجية المتزامنة يشكّل امتحانا للوعى الاجتماعيّ والتنظيمات السياسيّة من ناحية وللمؤسسات العسكريّة من ناحية أخرى. ومن العبث أن ينتهى «الربيع» إلى عودة الاستبداد والفساد والعجز كما قبل، وليس معقولا أن يكون ثمن بعض الحريات والتنمية الهشّة ومناهضة التطرّف «الداعشيّ» الخضوع لاستعمارٍ حديث وتصفية قضايا أساسيّة فى جوهر هويّة الشعوب.

سمير العيطة
المصدر: الشروق 

الآراء المنشورة في هذه المادة تعبر عن راي صاحبها ، و لاتعبر بالضرورة عن رأي المرصد.