المشهد السوري على وقع حرب جديدة

38
وساحة الحرب، مدينة إدلب وأرياف حماة وحلب، التي تتعرض، بصورة تبدو مبرمجة، لهجمات سلطوية منفلتة، مدعومة بغارات جوية وقصف مدفعي عنيف، أديا لتدمير قرى بأكملها وعشرات المشافي والمستوصفات والمدارس، وقتل وجرح المئات من المدنيين وفرار الآلاف من جحيم البراميل المتفجرة.
واللافت، أن قرع طبول الحرب يزداد وضوحاً وتواتراً، رغم اتفاقي آستانة وسوتشي، القاضيين بخفض التصعيد وإنشاء منطقة منزوعة السلاح حول إدلب، والأهم رغم تخوفات المجتمع الدولي وتحذيرات الأمم المتحدة من حرب مدمرة ستكون أشبه بمجزرة أو حمام دم، في بقعة مكتظة تضم ما يقارب ثلاثة ملايين إنسان معظمهم من نازحي جماعات المعارضة المسلحة وحواضنها من مدن وأرياف دمشق وحمص وحلب، والذين لجأوا إليها، بما يشبه التهجير القسري، بفعل الحصار واستعصاء المعارك واشتراطات التسويات والمصالحات، ولعل هروب وتشرد أكثر من مائتي ألف سوري، خلال عمليات القصف الوحشية الأخيرة، دليل على حجم الخزان البشري وما يمكن أن يحل به إن استمرت المعارك، وتالياً على عمق الكارثة الإنسانية التي سيتعرض لها المدنيون من أهلها وسكانها والنازحين إليها.
بداية يصح القول: إن قرار هذه الحرب، هو بيد موسكو، الجهة الأقوى وصاحبة الكلمة العليا في الشأن السوري، والتي لا يزال يكتنف موقفها الغموض والضبابية، فإذا سلمنا بوجود دوافع جدية تشجعها على الحسم العسكري، منها استثمار المناخ العالمي المناهض بشدة للجهاد الإسلاموي، لتصفية هذا النوع من الإرهاب، وما يشكله من أخطار عليها، ومنها أن مد سيطرة النظام على إدلب وإنهاء آخر بقعة للمعارضة المسلحة، يحقق مبدأ وحدة الأراضي السورية الذي طالما نادت به موسكو، آملة بأن يضمن ذلك استقراراً نسبياً في البلاد، وأقل ردود فعل شعبية وسياسية مناهضة لها، ومنها أيضاً أن موسكو تعتبر إدلب آخر عقدة أو معضلة في طريق الحل السياسي الذي تحاول فرضه على السوريين، وبتذليلها تظهر أمام العالم بمظهر الطرف الذي نجح في إنهاء الحرب، والأقدر على إحلال السلام وتمرير الحل السياسي، ما يجعل الغرب أقل تصلباً في التعاطي مع الوضع القائم، والتقدم خطوات جدية نحو إعادة الإعمار…
لكن، وفي المقابل، ثمة عقبات ومعوقات تقف في وجه خيار الحرب، لا يمكن أن تُغفل ويجب أخذها باهتمام كافٍ.
أولها الموقف التركي، ومدى تأثير التصعيد العسكري على التحالف المؤقت بين موسكو وأنقرة، وما أبرمتاه من اتفاقات بينية أو تجاه الوضع السوري. وإذ نعترف بأن رد فعل تركيا بقي محدوداً على التصعيد الأخير، حتى بعدما أصاب القصف موقعاً عسكرياً تركياً ونقطتي مراقبة، ما دام همها الرئيس هو تحجيم الفصائل الكردية، ونعترف بأنه لا تخفى على حكام أنقرة نيات الكرملين في لجم طموحاتهم وتجميد فعالية وجودهم العسكري، لتحجيم دورهم السياسي وحصتهم في المستقبل السوري، فلا بد أن نعترف أيضاً بأن تركيا لن تقف متفرجة أو مكتوفة الأيادي تجاه هذه الحرب، كما كان حالها في معارك الرقة وحلب، ليس فقط لأن مناطق إدلب تحاذي مباشرة حدودها؛ بل لأن تلك المناطق محط اهتمام حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي للتمدد وتوسيع الكانتون القومي الذي يتطلع لتكريسه وإدارته، ولأنها تتحسب من تدفق سيل جديد من اللاجئين إلى أراضيها، بدليل ما يثار عن دورها في مد فصائل المعارضة المسلحة بمضادات للدروع، كمحاولة لتمكينها من الصمود وإطالة مدة الحرب، وإيقاع أفدح الخسائر بالأطراف المهاجمة، والغرض منع النظام وحلفائه من ربح المعركة أو فرض توازنات وخرائط جديدة.
والعقبة الثانية، أن النظام السوري الراغب بشدة في مد سيطرته، لم يعد يمتلك من القوى البشرية ما يمكنه من خوض هذه الحرب والتقدم فيها؛ بل يرجح أن ثمة خسائر فادحة تنتظره، كما تدل التقارير الواردة من ساحات المعارك، هذا عدا أن أفراداً وجماعات عسكرية من قوات النظام السوري نفسه، باتت غير متحمسة للعودة إلى الخنادق، بعد أن لمسوا مرارة الانتصار الذي تتغنى به السلطة، والذي لم يجلب لهم المن والسلوى؛ بل معاناة مذلة ومهينة طالت جرحاهم وأسر قتلاهم ومستلزمات عيشهم، ولا يغير هذه الحقيقة – بل يؤكدها – زج «الفيلق الخامس» في الخطوط الأمامية، والذي شُكل حديثاً من مجندين، غالبيتهم من أبناء المناطق المتمردة، ومن عناصر المصالحات التي عقدت، ويؤكدها أيضاً تراجع حضور الميليشيا الإيرانية، ربطاً بالضغوط التي تتعرض لها طهران؛ حيث لم يعد بمقدورها تغطية تكلفتهم في ظل تشديد العقوبات الاقتصادية عليها، وتواتر محاولات تحجيم دورها في سوريا.
أما ثالث العقبات، فهو موقف دولي يعلن صراحة رفض هذه الحرب، مدركاً خطر تداعياتها العسكرية والإنسانية، وما يمكن أن تخلفه من دمار وهجرات تتدفق على أوروبا من جديد، سيما أن هناك إشارات تدل على جدية واشنطن في منع هذا الخيار وإفشاله، تحدوها رغبة في عدم ترك موسكو تنفرد في تقرير المصير السوري، ومنع إيران من الالتفاف على الحصار المشدد عليها، وخلق فرصة لمزيد من التعاون مع البلدان العربية والغربية لضمان استقرار المنطقة.
والعقبة الرابعة، هي انتشار الآلاف من مقاتلي «هيئة تحرير الشام»، في غالبية مناطق إدلب، وهؤلاء لا مكان آخر لهم يمكنهم اللجوء إليه، ما يجعل هذه الحرب بالنسبة لهم حرب وجود، والقصد أنهم لن يتوانوا أو يترددوا في فعل أي شيء للحفاظ على وجودهم، ولن يدخروا جهداً في الدفاع عن معقلهم الأخير مهما كانت التكلفة والأثمان، ما ينذر بحرب دموية طويلة ومدمرة ومكلفة، لن يخفف من وطأتها ما يثار عن تطبيق سياسة الأرض المحروقة ضدهم.
والحال، إذ يمنح اختلاف أهداف الأطراف الموغلة في الدم السوري وتباين حساباتها ومصالحها الأنانية، مدينة إدلب فرصة تلافي حرب واسعة وبربرية، يفترض ألا يثير ذلك كثيراً من الاطمئنان، ما دامت تلك الأطراف مجمعة على الاستهتار بالوطن السوري وبحيوات البشر وحقوقهم، وما دام المجتمع الدولي ومنظمته الأممية يكتفيان بمراقبة ما يجري، دون أن يحركا ساكناً، وكأن ليس من واجباتهما إنقاذ مدنيين يحاصرهم إرهاب متعدد الوجوه، في هذه المنطقة المنكوبة من العالم!

أكرم البني 
المصدر: الشرق الأوسط

الآراء المنشورة في هذه المادة تعبر عن راي صاحبها ، و لاتعبر بالضرورة عن رأي المرصد.