تسول وعمالة أطفال وتشرد للنساء والعائلات… ثماني سنوات والحرب السورية تُمزق النسيج الاجتماعي السوري

54

على مدار سنوات الأزمة في سوريا، سلط العالم أنظاره على التداعيات الاقتصادية لتلك الحرب الضروس التي كادت تمزق البلاد، دون إعطاء التداعيات الأهم لتلك الحرب، وهي التغييرات الاجتماعية والآثار الإنسانية على المواطنين السوريين، ما يكفي من الاهتمام، فقد أدت تلك الحرب إلى ظواهر جديدة لم يكن يعرفها المجتمع السوري، على رأسها ظاهرة أطفال الشوارع والتشرد والتسول، حيث تشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن الحرب السورية أدت إلى تشرد ما يقارب من 5 ملايين طفل في الداخل والخارج، بعد أن فقدوا منازلهم وأفراد عائلاتهم وخرجوا عن التعليم المدرسي.

وعلى الرغم من ادعاءات الاستقرار في مختلف مناطق السيطرة في الأراضي السورية، فإن ظاهرة التشرد بشكل عام للبالغين والقُصَّر كانت واضحة إلى حد كبير، ليس داخل مخيمات النازحين فقط، وإنما في عموم الأراضي السورية ومختلف مناطق السيطرة. ومن خلال مصادر متعددة موثوقة، يسلط المرصد السوري لحقوق الإنسان الضوء على تلك الظاهرة.

 

أطفال الشوارع.. ظاهرة جديدة لم تتوقف عند حد التسول

كانت السنوات الثماني الماضية كفيلة بأن تسلب الأطفال براءتهم، وبدلا من أن يكونوا في مدارسهم يتلقون العلم، باتوا في الشوارع يتسولون وينقبون في القمامة بحثا عن لقمة عيش، حيث تشير تقديرات منظمة “يونيسيف” إلى أن 2.6 مليون طفل تعرضوا للتشرد داخليا في سوريا، فيما أصبح 2.5 مليون طفل آخرين يعيشون كلاجئين في البلدان المجاورة، وفي ظروف ليست أفضل كثيرا مما يعاني منه المشردون داخليا. وبحسب مصادر موثوقة، لـ”المرصد السوري”، كانت هناك جمعيات تعمل في سوريا على قضية الأطفال المشردين، لا سيما في مخيمات “طرطوس”، إلا أن الوضع ليس سهلا ولا يلقى الاهتمام الكافي من جانب المنظمات المختلفة، حيث تشير المصادر إلى أن الأطفال أصبحوا يعملون في التسول في منطقة الشام، لا سيما في “جرمانا”. وأشارت المصادر إلى أن ظاهرة أطفال الشوارع انتشرت بالتزامن مع انتشار ظاهرة التسول، وبات الأطفال يُستخدمون في التسول لصالح أشخاص يستغلونهم.

مصادر المرصد السوري لحقوق الإنسان أشارت إلى أنه بات من الطبيعي في منطقة مثل “جرمانا”، أن يشهد الزائر سربا من الأطفال المشردين ينقبون في القمامة بحثا عن أي شيء يصلح لتناوله، بينما انتشرت ظاهرة التسول بشكل هائل، حتى بات المتسولون البالغون يحيطون أنفسهم بالكثير من الأطفال الصغار أو الرضَّع في الشوارع، ويستخدمونهم في التسول، وبالتالي فإن ما يجنونه من التسول لا يذهب إلى الأطفال الذين لا يمتُون بصلة من الأساس للمتسولة البالغة المرافقة لهم، وإنما يذهب لمن يستخدمونهم في عمليات التسول.

في الثالث من ديسمبر/كانون الأول، نقل المرصد السوري لحقوق الإنسان تقريرا عن صحيفة “الشرق الأوسط” اللندنية، تناول ظاهرة أطفال الشوارع من زاوية أخرى، فلم يركز التقرير آنذاك على ظاهرة التسول في حد ذاتها، وإنما على الظواهر التي صاحبتها، مستشهدا بالطفل “أحمد” الذي يبلغ من العمر ثماني سنوات، فما إن فرغ من يوم طويل قضاه في التسول في شوارع دمشق، حتى لجأ إلى حديقة في وسط المدينة لينال قسطا من الراحة وليكافئ نفسه بـ”إصبع شعلة”، وهو مادة لاصقة ذات رائحة نفاذة تستخدم بديلا للمخدرات بسبب انخفاض سعرها، إذ إن سعر العلبة 130 غراماً تباع بـ350 ليرة سورية، إلا إنها مادة سمّية، ويندرج الإدمان عليها ضمن الإدمان على المواد الكيماوية. وبحسب التقرير ذاته، فإنه على الرغم من أن المفعول المخدر لتلك المادة اللاصقة معروف منذ عقود في سوريا وخارجها، إلا أن سنوات الحرب وتزايد أعداد الأطفال المشردين في الشوارع جعل تلك الظاهرة واضحة بقوة في الشوارع السورية نهارا جهارا.

 

المرأة السورية.. تشرد اجتماعي يضرب أوتار المجتمع السوري

تشير تقديرات المرصد السوري لحقوق الإنسان إلى أن عدد ضحايا الأزمة في سوريا على مدار السنوات الثماني، يتجاوز 370 ألف قتيل من بينهم 112 ألف مدني على الأقل. وقد أدى ارتفاع عدد ضحايا الحرب إلى انتشار ظاهرة أخرى في المجتمع السوري، هي ظاهرة العنوسة، حيث إن الآثار والتداعيات الناتجة عن الأزمة على المرأة السورية تنقسم إلى جزئين، وفقا لمصادر مطلعة لـ”المرصد السوري”. وتشير المصادر إلى أن الجزء الأول تضرر من الأحداث بشكل مباشر، بسبب مقتل الحبيب أو الرفيق أو الزوج أو الأخ أو الأب، أما الجزء الثاني الذي تضرر بشكل غير مباشر، فقد نتج عن ارتفاع عدد ضحايا الحرب، مؤديا إلى انتشار ظاهرة العنوسة.

ولا يتوقف الأمر عند حد العنوسة، حيث تشير مصادر موثوقة إلى أنه لا يمكن لأحد أن يعرف فيما تفكر النساء اللاتي فقدن أبنائهن أو أزواجهن، حيث هرب أغلبهن من سوريا بينما بقيت أخريات تحت خط الفقر بسبب الظروف التي تعاني منها المرأة السورية. وتشير المصادر إلى حالة إحدى الأمهات التي اعتُقل ابنها في “إدلب” ثم حصل على إخلاء سبيل لكن لم يتم الإفراج عنه حتى الآن بحجج مختلفة تجعله يتنقل بين فروع الأمن المختلفة دون الإفراج عنه.

وبحسب ما رصدته مصادر المرصد السوري لحقوق الإنسان، فإن بعض النساء السوريات لم يتضرروا بشكل مادي من الحرب، حيث كن يعشن في رخاء اقتصادي إلى حد ما، وبعد الأزمة أصبحن يبحثن عن مصالحهن من خلال الانضمام إلى جمعيات الإغاثة والمساعدة. ووفقا لمصادر مطلعة، فإن “السوريات المشاركات في جمعيات الإغاثة ينقسمن إلى قسمين، الأول هن الشريفات لأن السوريات لم يعد بالإمكان خداعهن، أما القسم الثاني فهن النساء العاديات اللاتي لا يشترط أن يكن غير شريفات ولكنهن يحصلن على إيرادات جيدة من خلال تلك المنظمات”، وأضافت المصادر: “أصبحنا نلاحظ أن أغلب النساء اللاتي يعملن في مؤسسة الهلال الأحمر أو بمكافحة السرطان أو أي مجال آخر، كلها تابعة للسيدة الأولى، أي أنهن يحصلن على رواتب مجزية، ويتم اختيار أولئك النساء بحيث لا يكون لديهن خلفية سياسية، وقد تكون بعضهن من عائلات راقية، وقد يكون هناك من يعمل في المخابرات في عائلاتهن، حيث نجح بعض عناصر المخابرات في تشغيل بناتهم بجمعيات الإغاثة وحقوق الإنسان”. ووفقا لمعلومات موثوقة حصل عليها المرصد السوري لحقوق الإنسان، فإن بعض السيدات السوريات اللاتي فضلن البقاء بالبلد هن بنات عائلات معروفة وميسورة ماديا ولم تفقدن شيء في الحرب، لكنهن استطعن إخراج أبنائهن المطلوبين للتجنيد من البلاد، وبقين هن للعمل في جمعيات مكافحة السرطان وغيرها، وأصبحن فاعلات في المجتمع. أما عن نساء المعارضة، فتشير مصادر المرصد السوري لحقوق الإنسان إلى أنهن يعملن أيضا في منظمات الإغاثة والتعليم وغيرها من المنظمات الإنسانية.

 

الطبقة الغنية حكر على النظام.. والغلاء والرشاوى يضربان الطبقة الوسطى

تسببت سنوات الحرب في أضرار حادة للنسيج الاجتماعي السوري، وما بين التشرد والعنوسة وغيرها من الظواهر الجديدة نسبيا على المجتمع السوري، ضرب الغلاء الجميع حتى اختفت الطبقة الغنية وأصبحت حكرا على النظام فقط، فيما تشعر الطبقة الوسطى بالغلاء نتيجة ارتفاع الأسعار والرشاوى وغيرها من المصاريف التي تجعل تلك الطبقة تعاني. ووفقا لمصادر موثوقة، فإن “من يستطيع تهريب أبنائه إلى الخارج لكي لا ينضموا إلى الجيش يفعل ذلك دون تردد”، فيما انتشرت ظاهرة الرشاوى لتجنب تجنيد أبناء العائلات، إلا أنه غالبا ما يتبين فيما بعد كذب الوسطاء من أجل سلب أموال المواطنين دون القدرة على تجنب تجنيد الأبناء.

 

ملايين المشردين.. السوريون يهجرون منازلهم بسبب الحرب

بشكل عام، لم ينج سوري من آثار وتداعيات الحرب سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، وهو ما ظهر جليا في تعداد النازحين والمشردين الذين هجروا منازلهم في مناطق مختلفة بفعل المعارك وانعدام الأمن والاستقرار وعدم توافر أبسط سُبُل المعيشة. ووفقا لتقديرات المرصد السوري لحقوق الإنسان، فإن تعداد النازحين والمشردين من “عفرين” وحدها بعد السيطرة التركية بصحبة الفصائل السورية الموالية لـ”أنقرة”، بلغ 350 ألف نازح ومشرد تركوا منازلهم خوفا من بطش الفصائل الموالية لتركيا، وباتوا يعيشون في المخيمات أو في العراء، في وقت يجري فيه توطين نازحين من مناطق أخرى خاضعة لسيطرة الفصائل في منازلهم. وفي الرابع عشر من يونيو/حزيران الماضي، أكد مدير المرصد السوري لحقوق الإنسان رامي عبدالرحمن، أن هناك أكثر من 300 ألف مدني سوري شُردوا وباتوا يعيشون في العراء على الحدود مع لواء إسكندرون، نتيجة العمليات العسكرية التي أطلقها النظام وروسيا في الثلاثين من أبريل/نيسان الماضي.

وفي منتصف أغسطس/آب الماضي، أكد مدير المرصد السوري لحقوق الإنسان رامي عبدالرحمن، أن الكارثة الإنسانية في إدلب تفاقم نتيجة القصف الروسي السوري على المدينة، حيث وصلت أعداد المشردين إلى 800 ألف مدني نزحوا إلى ريف إدلب الشمالي وريف حلب الغربي، ومنعتهم القوات التركية من دخول “عفرين”. وفي الخامس من سبتمبر/أيلول الجاري، رصدت مصادر المرصد السوري لحقوق الإنسان سوء الأوضاع التي يعاني منها المشردون في مخيم “الغرباء” ومخيم آخر بالقرب من بلدة “قاح”، حيث تعاني أكثر من 700 عائلة مشردة في المخيمين، من أوضاع إنسانية صعبة، وسط زيادة أعداد المشردين والنازحين إلى المخيمين مع توافد الآلاف إليهما بسبب خسائر المعارضة السورية في عشرات المناطق.

لا تتوقف تداعيات الحرب السورية عند حد الأوضاع الاقتصادية والإنسانية الصعبة، حيث باتت ظاهرة التشرد وتفكك النسيج الاجتماعي في سوريا مُلحة بشكل لم يعد ممكنا تجاهلها، خاصة ظاهرة تسول الأطفال ولجوئهم إلى المواد المخدرة و”إصبع الشعلة” واستخدامهم من قبل شبكات التسول. ويدعو المرصد السوري لحقوق الإنسان منظمات الإغاثة والمنظمات الدولية لإيلاء الاهتمام الكافي لتلك الظواهر الجديدة نسبيا على المجتمع السوري، لإنقاذ الأطفال والبالغين على حد سواء من ويلات هائلة لم تتبين آثارها المستقبلية بعد.