إيران الثيوقراطية وسياسات” أكل الميتة”

70

الكاتب: د. محمد خالد الشاكر.

في حديث للرئيس السابق لوكالة تسنيم الإيرانية المقربة من الحرس الثوري الإيراني، يكشف الأخير ” أن معلومات أمنية خطيرة وصلت إيران عن طريق الاستخبارات التركية، حول وجود مؤامرة لتغيير النظام الإسلامي في إيران”، بعد اجتماعات بين الأجهزة الأمنية الإيرانية والتركية، تضمنت – حسب قوله- وجود خطة يُعد لها منذ سنتين من خلال تدريب 2500 إيراني على فترات متقطعة لتشكيل منظمة تعمل داخل إيران للانقلاب على النظام الحالي .

يتابع مؤسس وكالة تسنيم بقوله: ” بعد تحديد المعلومات الشخصية عن جميع أعضاء المنظمة المشار إليها بالتعاون بين إيران وتركيا، بدأت الأجهزة الأمنية الإيرانية بالتحري عنهم داخل البلاد؛ فظهر لها أنّ أعضاء المجموعة قد غيّروا أمكنة عملهم، و إقامتهم، ومظهرهم، مما أوجد حالة خطرة جداً، استدعت اجتماعات مشتركة بين خبراء الأجهزة الأمنية الإيرانية وأساتذة الجامعات من ذوي الاختصاصات المختلفة ذات العلاقة؛ تم بعدها الاتفاق على استنفار الجميع، للبدء بخطة لخلق أزمة كبيرة في البلاد، وانتظار تحرك – ما أسماهم – بـ ” الخونة “.

يتابع مؤسس وكالة تسنيم الإيراينة بقولة: ” يبدو إن النظام الإسلامي ككل – وليس الحكومة – اختار طريق ” أكل الميتة” ( أي الشعوب الإيرانية) ، عن طريق زيادة أسعار البنزين لأن زيادة الضرائب أكثر مما هي عليه الآن يوقف عجلة الاقتصاد الداخلي، في الوقت الذي يتعذر فيه زيادة تصدير النفط بسبب العقوبات الأمريكية. و بالفعل فقد تظاهر المواطنون العاديون، بينما بدأت المجموعة التي تخطط للانقلاب – حسب قوله- بالاتصال بأسيادها بالخارج واستغلال الوضع والشروع بتنفيذ الانقلاب، ومستشهداً بما حذر منه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.

المتابع لتصريحات المسؤولين الإيرانيين حول ما تشهده إيران من ثورات، يلاحظ مدى الخلط والتناقض في حديثهم بالاستفادة من إعادة تدوير ما يحدث في إيران، و إيجاد مخارج جديدة للنفوذ الإيراني خارج إرادة الشعوب الإيرانية و خارج إرادة الشعوب الثائرة في مناطق النفوذ الإيراني، وذلك بالإعلان صراحةً عن الدور التركي في توطيد دعائم النظام الإيراني، وبالاستفادة من مرحلة الشراكة الاستراتيجة بين البلدين، سواء من خلال تحالف أستانا في سورية، أو من خلال المواقف المتبادلة بينهما، بدءاً من إدانة تركيا رسمياً لتصنيف الحرس الثوري الإيراني بأنه منظمة إرهابية، وانتهاءً برفض تركيا الامتثال لتطبيق العقوبات الأمريكية على إيران، قابله تصريحات للمسؤولين الإيرانيين حول دور إيران في إفشال المحاولة الإنقلابية في تركيا، وهي المعلومات التي سربها موقع ” المونتيور” الأمريكي، قبل أن يكشف تفاصيلها السفير التركي في إيران – عشية مرور عام على المحاولة الانقلابية – شارحاً الأدوار التي قامت بها الاستخبارات الإيرانية في تأمين حماية جوية لأردوغان إلى حين هبوطه في مطار أتاتورك، وتأمين بقاءه داخل تركيا لمواجهة الانقلاب بالشارع، قائلاً: ” أنّ بلاده تشعر بالامتنان العميق للدعم الإيراني المقدم لتركيا ليلة المحاولة الانقلابية”.

يحاول نظام الملالي اليوم إعادة تدوير ما يجري في الداخل الإيراني بوصفه بالمؤامرة، بينما لم تتوقف الاحتجاجات الشعبية منذ الثورة الخضراء في إيران 2009، كما الثورات التي اندلعت في مناطق نفوها في لبنان والعراق، التي وصلت إلى حدود استعمال إيران للعنف المفرط بحق الثوار، ما وضعها أمام رفض شعبي سواء في داخلها أوفي مناطق نفوذها.

لهذا كله يركز الإعلام الإيراني اليوم على مسألة خلط الأوراق و إيجاد بدائل إقليمية من خلال مغازلة تركيا التي تعمل معها على توطيد علاقاتها أكثر فأكثر كمرجعية تؤمن لها مدخلاً جديداً يعوضها انسداد بوابة الولاء الشعبي لها في مناطق نفوذها، بعد أن أيقنت تلك الشعوب أن إيران لا تفرق بين سني وشيعي، عندما يتعلق الأمر بزعزعة مشروعها التوسعي في المنطقة العربية، التي حولتها إما إلى دول فاشلة أو بؤر للصراع، كما حوّلت شعوبها إلى ” جثث ميتة” بسبب الفقر، والفاقة، والجهل، والأمية، وغياب أبسط مقومات الحياة اليومية.

تناقضات أخرى تبديها تصريحات المسؤولين الإيرانيين في معرض الحديث عن أحداث الثورة الإيرانية، حيث يتجاهل هؤلاء الشعوب الإيرانية ذاتها، فقد شبه مؤسس وكالة تسنيم – المقربة من المرشد – اللجوء إلى رفع أسعار الوقود من جيب الشعوب الإيرانية بـ ” أكل الميتة”، وفي ذلك اعتراف بما وصلت إليه حالة البلاد بسبب سياسيات التدخلات الخارجية الإيرانية، وصناعة الفوضى، وتصدير الطائفية، والصراعات الداخلية في المنطقة العربية. ولهذا كله ما انفكت هذه الشعوب” الميتة” داخل إيران بمناداتها: ” يسقط الديكتاتور.. لا لبنان..لا غزة”، وفي لبنان ” كلن يعني كلن” في إشارة لحزب الله، وفي العراق ” بغداد حرة حرة.. إيران تبقى بره”، و ” أخوان سنة وشيعة هذا الوطن مانبيعة”، و” شلع.. قلع كلهم حرامية”.

هكذا انقلب السحر على الساحر، في فشل ذريع لمبدأ تصدير ” الثورة الإيرانية”، التي أراد الملالي تصديرها إلى المنطقة فاستوردتها الشعوب الإيرانية الساخطة، التي أصبحت تعي تماماً فكرة موات الإيديولوجيا و الصراعات الكلاسيكية في إطار تركيبة النظام الدولي الجديد، الذي أصبح يتأسس على حاجات الفرد اليومية وكرامته ومواطنته.

في مواجهة ذلك، تحاول إيران التوجه نحو إيجاد بدائل إقليمية عبر البوابة التركية، التي تتفق معها في دعم الجماعات العابرة للحدود والوطنية، كممر أخير لوجودها في المنطقة، التي شهدت سلسلة من سياسات التواطؤ والتنافس بين الدولتين، لاسيما بعد التزاوج الخبيث بينهما في أهم ساحات نفوذهما في سورية من خلال تحالف أستانا، الذي أصبح تحالفاً استراتيجياً تعمل من خلاله الدولتان على إطالة الصراع وتعقيده، ما يسمح لإيران بإعادة تدوير مشروعها الطائفي عبر التشيع في غرب الفرات، تأميناً لكريدورها الممتد من طهران، فسورية، فالضاحية الجنوبية، فالمتوسط. كما يحقق لتركيا مشروع مجالها الحيوي في شمال سورية على شاكلة شمال قبرص، وهما المشروعان اللذان يحتاجان إلى عامل الوقت وإطالة أمد الصراع، من خلال عملية سياسية شكلية، ترتكز على استمراء حالة العرقلة بالإبقاء على أدواتها من الأطراف السورية، وبالتالي الارتكاز مرة أخرى على فكرة ” أكل الميتة”، من السوريين الذين يعيشون في مناطق نفوذ الدولتين الإقليميتن، حيث هشاشة البنى المجتمعية والتحتية التي أفرزتها ثقافة الحرب، وانتشار الفقر والتهميش والفوضى كمقدمة لركيزتي الأدلجة والعسكرة، ما يؤمن رسم خطوط التماس ومناطق النفوذ داخل سورية. ولهذا تبدو العملية السياسية في سورية أكثر من عقيمة، إذا ما استمرت بعقلية الأطراف السورية التي مازالت تستمرأ سياسات العرقلة والانسداد.

على الصعيد الدولي، تشكل إيران اليوم دولة شاذة ومقلقة، فهي آخر دولة بعقلية ثورية- ثيوقراطية داخل النسق الدولي، وبالتالي عدم قدرتها على الاندماج في النظام الدولي، الأمر الذي سيمهد – كحتمية تاريخية – لهزات أعنف، تنتظر إيران على المدى القريب.

يشير علم الاجتماع السياسي الحديث، أنّ التاريخ ليس مجرد واقعة، بقدر ما هو معنى للماضي وحدس للمستقبل. فتتبع الوقائع التاريخية ينبأنا بأنّ نهايات الدول الثيوقراطية – الدينية، غالباً ما تكون مقدمة لإعادة صياغة نظام إقليمي جديد، تماماً كما حصل بعد نهاية حكم الكنيسة في أوروبا، الذي أورث حروب الثلاثين عاماً الدينية، وكما حصل أيضاً مع الدولة العثمانية، التي أورثت حرب القرم والحربين العالميتين الأولى والثانية.
النهايات ذاتها، تقف أمامها إيران اليوم، بعد أربعين عاماً، أخذت خلالها ما يكفي من حروب طائفية، تقتضي معها ولادة نظام إقليمي جديد، لا مكان لإيران الملالي فيه.