هل يربح النظام في استحقاق الانتقال السياسي الذي سيدخله مكرها؟

26

كان السوريون بعد انقلاب 16 أكتوبر/ تشرين الأول 1970 ممنوعون من ممارسة السياسة تحت طائلة الاعتقال أو الموت أو المطاردة والتشرد. وفي الشهور الأولى من عهد بشار عاد السوريون لممارسة السياسة، فصاروا يتحدثون علنا ويناقشون موضوعات ومسائل كانت محرمة عليهم إلى وقت قريب. جرى كل ذلك تيمنا بالعهد الجديد، الذي سمح فيه رئيسه بالحديث الحر وبأمر مباشر منه.
لكن ما أن مضت ستة شهور بالعدد، حتى ذاب الثلج وبان المرج، وانقشعت الحقيقة عن فخ كبير نصبه أولي الأمر للمثقفين الجريئين، فخ سقط فيه العديد من السياسيين والناشطين المعارضين، فوصلوا إلى فروع المخابرات والمعتقلات زرافات ووحدانا، وهو ما كان نذيرا بالعودة إلى حالة إغلاق الأفواه، والخوف الذي اعتاد عليه السوريون عقودا في جمهورية الصمت العتيدة التي دشنها الأسد الأب. قيل يومها إن إغلاق المنتديات وإيقاف موجة الربيع الدمشقي جاءت بناء على اجتهاد من نائب الرئيس عبدالحليم خدام، الذي تخوف من «جزأرة» سوريا، أي إدخالها في مسار مشابه للحالة الجزائرية بعد فوز الإسلاميين في الانتخابات كنتيجة مباشرة لسيادة عهد من الحريات السياسية.لكن الحقيقة أن إجراء كهذا، أي إيقاف المتتديات السياسية والثقافية ما كان ليتم إلا بقرار من أعلى سلطة في البلاد. يحتار السوريون حتى الآن في تحديد هوية تلك السلطة العليا في ذلك الوقت، هل هو الرئيس الشاب؟ أم ما سمي آنذاك بالحرس القديم.
عادت إذن أجهزة الأمن لتتحكم بكل نشاط سياسي، أو لقاء اجتماعي ثقافي، فتمنع أو تسمح أو تغض النظر، أو تعتقل حسب الظرف الداخلي أو الدولي، ووفق مصلحة النظام، بل أيضا وفق توازنات مراكز القوى والأجهزة داخل النظام. بعد الثورة تكشف النظام الأمني بكامل عنفه فعاد إلى ممارسة ما يمكن تسميته «ما بعد العنف» أو ما فوق العنف، فراح يمارس الإبادة، مستذكرا سيرته الأولى في حماه قبل ثلاثة عقود، لكن هذه المرة ليحول سوريا كلها إلى حماه كبيرة، أصبحت فيها مجزرة حماه نقطة في بحر مجازر لا تتوقف. فعل النظام كل ما يمكن فعله في الشعب السوري، اعتقالا، قتلا، تهجيرا وتطهيرا عرقيا طائفيا، بالمذابح أو الغازات المحرمة دوليا، وانتصرت له قوى إقليمية ودولية، حتى وصل رئيس النظام إلى رشوة كتاب وصحافيين غربيين ووسائل إعلام غربية، فظهر شخصيا على شاشاتها وصفحاتها أكثر من أربعين مرة خلال سنتين، أتاحت له تلميع صورته امام الرأي العام الغربي، وهو ما لم يتح في التاريخ لأي ديكتاتور، يذبح شعبه ويدلي في الوقت نفسه بحديث لصحيفة، أو شبكة تلفزة غربية يدافع فيه عن «سياسته» التي لا تعدو عن أن تكون سياسة ارتكاب المجازر بجميع أنواع الأسلحة. خاض النظام حربه ضد شعبه بنجاح ليس بفضل قوته وعنفه، فهذه قد تنفع لبعض الوقت لكنها لا تنفع طوال سنوات متواصلة، كان يفقد خلالها آلافا من جنوده ومرتزقته، إنما بفضل دعم إيران وروسيا العلني العسكري، ودعم آخرين السياسي أو الدبلوماسي. الأمر الذي كان النظام يتجنبه على الدوام، هو الجلوس إلى طاولة المفاوضات في مواجهة المعارضة لسببين، الأول أنه لم يعترف في تاريخه بوجود معارضة سياسية، فليس في سوريا إلا شعب مطيع محب مؤيد لقيادته السياسية، وإلا كيف يمكن أن يحصل رأس النظام على 99% من أصوات الناخبين في كل انتخاب؟ انتخاب هو في الحقيقة «تجديد بيعة» ، فالمعارضة في عرف النظام خيانة ليس للنظام والرئيس فحسب، بل للوطن، لسوريا، لأن الرئيس اختزل الوطن بشخصه فكيف بعد ذلك يمكن للنظام أن يجلس وجها لوجه مع المعارضة؟
الثاني أن النظام هو في طبيعته وتكوينه ضد السياسة كسياسة من حيث المبدأ، من حيث الشكل والمضمون، فلا سياسة في دولة المخابرات والمافيا سوى سياسة الرضوخ والعنف، فالرئيس هو عسكري أولا ورجل أمن ثانيا وسياسي ثالثا، وإن كان يشاركه الأمن والعسكرية كثيرون، لكنه هو السياسي الوحيد في الوطن فليس مسموحا حتى لأقرب المقربين له أن يمارس السياسة بما هي رأي آخر أو اجتهاد في الرأي.

حول النظام سوريا كلها إلى حماه كبيرة، أصبحت فيها مجزرة حماه نقطة في بحر مجازر لا تتوقف

بعد تحقيق شيء من التوازن على الأرض بدأت هدنة وبدأت فكرة المناطق الآمنة، كان لا بد للنظام من الخضوع إلى داعمه ومرشده ومعلمه الروسي بالذهاب إلى طاولة المفاوضات في أستانة، ثم في سوتشي، وهو بهذا يكون كمن يساق إلى حتفه، فكيف يمكن لرجل أمن بذهنية لص أو مجرم محترف أن يتحدث في السياسة؟ ليس فقط هو يرفض السياسة، بل هو أساسا لا يعرف شيئا عنها، لأنه في اعتقاده لا يوجد شيء في السلطة سوى القتل والإذلال والنهب، والسياسة الوحيدة الحلال هي التي تجعله آمنا أطول وقت ممكن على كرسي الحكم والسلطة، فالمعنى الوحيد للسياسة هو القمع.
قدم الجعفري الذراع الدبلوماسي الخارجي للنظام أبلغ صورة عما نقوله، فهو رغم أنه مجاز في أكثر من اختصاص، ومن أكثر من جامعة شهيرة، غير انه تحول إلى شوارعي أو شبيح في أكثر من مناسبة، أجبر فيها على لقاء وفد من المعارضة السورية، وهو في أحسن الحالات، حين لم يمارس فيها التشبيح الدبلوماسي، كان يتبع المغالطات المنطقية أو التنكر للبدهيات، كيلا يمنح وفد المعارضة أي كلمة أو نقطة لصالحها، الأمر الذي دفع وزير خارجية روسيا في لقاء أستانة إلى أن يخاطب الجعفري قائلا له أمام محمد علوش رئيس وفد المعارضة «إن حكومتك خارج التاريخ»، بمعنى أن منطقكم كسلطة لا علاقة له بالواقع.
تستطيع روسيا أن تدعم النظام في الحرب لكن كيف يمكن لها أن تدعمه في السياسة، إن كان نظاما غير سياسي وغير قابل لأي سياسة بحيث تشكل السياسة الضد منه، وربما الضد المطلق. من هنا يمكننا تفسير توجه النظام الفوري إلى مواجهة الثورة بالعنف، ومحاولة جره الثوار إلى الرد عليه بالعنف. ومن هنا تتأكد صوابية موقف الذين اتهموا الثوار المسلحين الذين انجروا إلى المواجهة العسكرية بأنهم يقاتلون ضد النظام آنيا، لكنهم يقاتلون لصالحه على المدى البعيد، فالعنف والعسكرة والكراهية والتشبيح هي أسلحة النظام وميدانه واختصاصه الأصلي الذي لا يمكن لسوري أن يبزّه فيه. انتهت الحرب بلا رابح فهل يكون النظام رابحا في استحقاق الانتقال السياسي المقبل الذي سيدخله مكرها؟

الكاتب:فراس سعد