تحولات الوجود العسكري الأميركي في سوريا

36

 

أعلن وزير الدفاع الأميركي مارك إسبر يوم أمس، الخميس 5 كانون الأول (ديسمبر) 2019، اكتمال سحب قوات بلاده من شمال شرقي سوريا، وقال في حديث لوكالة رويترز إن عدد القوات الأميركية في باقي مناطق سوريا سيصبح 600 جندي فقط، بعد أن وصل إلى 2000 جندي في أعلى ذروة بلغها.

وكان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قد أعلن، بعد مكالمة هاتفية مع نظيره التركي رجب طيب أردوغان في السابع من شهر تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، عن قراره سحب القوات الأميركية من شمال شرق سوريا، لإفساح المجال أمام عملية عسكرية تركية في المنطقة، بدأت فعلاً بعد يومين من ذاك القرار.

وشملت العملية العسكرية التركية المنطقة بين بلدة تل أبيض الحدودية في محافظة الرقة وبلدة رأس العين التابعة لمحافظة الحسكة، وبعمق يصل إلى أكثر من عشرين كيلو متر حتى الآن، وأدت إلى نزوح أكثر من مئتي ألف مدني من بيوتهم، كما تسبب القصف التركي بمقتل وإصابة العشرات من المدنيين في منطقة العمليات ومحيطها.

وعلى الرغم من هذا الانسحاب، إلا أن الولايات المتحدة ستحتفظ بنفوذها في المناطق الشرقية، تحديداً محافظة دير الزور وجنوب محافظة الحسكة، حيث توجد حقول النفط الرئيسية السورية الأكبر، وذلك لمنع سيطرة تنظيم داعش عليها حسب التصريحات الأميركية المعلنة، لتنتهي بذلك مرحلة من مراحل الوجود الأميركي المباشر في البلاد، وتبدأ مرحلة أخرى، بعد أربع سنوات على إرسال أول قوة عسكرية أميركية بشكل رسمي إلى سوريا.

في خريف العام 2015، وافق الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما على إرسال قوة من المارينز، لا يتجاوز عددها الخمسين جندياً، للقيام بأعمال دعم وتدريب بهدف مساعدة وحدات حماية الشعب الكردية في ذلك الوقت على محاربة تنظيم داعش. كانت تلك القوة هي القوات البرية الأولى التي ترسلها الولايات المتحدة إلى شمال شرقي سوريا، بعد أشهر من الضربات الجوية التي قام بها طيران التحالف الدولي ضد تنظيم داعش، وأدت إلى توقف تمدد التنظيم الذي كان قد استطاع نهاية عام 2014 الوصول إلى داخل أحياء مدينة كوباني/عين عرب بعد أن احتل معظم محافظتي الرقة ودير الزور.

استطاع التدخل الأميركي، عبر الجو بشكل رئيسي، دعم انتصارات سريعة لتحالف عسكري، سيحمل اسم قوات سوريا الديمقراطية وقوامه الرئيسي من وحدات حماية الشعب، على تنظيم داعش شمالي محافظة الرقة، في عين عيسى وتل أبيض. وعلى الرغم من ذلك، فإن انقلاب المواقع وبدء تراجع التنظيم بشكل واسع عسكرياً، استغرق وقتاً أطول، فقد استطاع الحفاظ على مساحات واسعة في سوريا طوال العامين 2015 و2016.

وقد استدعى هذا من واشنطن زيادة مضطردة لقواتها الموجودة على الأرض في سوريا في الشمال الشرقي للمساهمة في معركة الرقة، وفي الجنوب أيضاً، لضبط البادية التي كانت خلال تلك الفترة مساحة واسعة تسمح بحرية حركة عناصر تنظيم داعش. ولهذا الغرض، قامت واشنطن، في إطار التحالف الدولي للحرب على داعش، بإنشاء قاعدة التنف على المثلث الحدودي بين كل من سوريا والعراق والأردن في آذار 2016، كما دعمت إنشاء فصيل مغاوير الثورة، ودعمت فصائل من دير الزور كانت قد انسحبت من المحافظة بعد سيطرة تنظيم داعش عليها، مثل فصيل أسود الشرقية.

ونتيجة ذلك التوسع الأميركي، وصلت أعداد الجنود في سوريا إلى ألفي جندي في عام 2017، متوزعين على عدد من القواعد العسكرية في الجزيرة السورية بشكل رئيسي. وفي تلك الأثناء، كانت الشخصيات العسكرية المحيطة بالرئيس الأميركي الجديد حينها دونالد ترامب، مثل وزير الدفاع الأمريكي جيمس ماتيس، تدفع نحو سياسة أكثر تدخلية في المنطقة لمواجهة تحديات عدة، ترى تلك النخب العسكرية الأقرب للحزب الجمهوري أن مواجهتها ضرورة لإصلاح أخطاء أوباما، الذي يعتبرون أن سياسته الانسحابية من المنطقة أدت إلى إفساح المجال أمام ظهور تنظيم داعش.

وكان من الواضح أن ترامب قد أعطى تلك الشخصيات تفويضاً واسعاً للعمل في المنطقة، ما ادى إلى ازدياد نفوذ البنتاغون في سوريا، وتوسيع القواعد البرية للقوات الأميركية في شمال شرقي البلاد، خاصةً بعد الاتفاق الروسي الأميركي على تحديد نهر الفرات كخط لتقاسم النفوذ في سوريا، الأمر الذي أدى إلى سيطرة النظام السوري مدعوماً من موسكو على مدن محافظة دير الزور الكبرى الواقعة على الضفة الجنوبية للنهر (دير الزور والميادين والبوكمال). وبالتوازي مع توسيع قواعدها وتعزيزها، راحت الولايات المتحدة تعزز من حضورها عبر تنفيذ دوريات في مناطق عدة من بينها منبج في ريف حلب الشرقي، وعلى الحدود السورية التركية شمال الجزيرة السورية، وقرب بعض خطوط التماس مع قوات النظام على أطراف الجزيرة، وذلك بهدف تأكيد نفوذها في مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية

مع اقتراب هزيمة تنظيم داعش، ومحاصرته في جيب صغير أقصى شرقي محافظة دير الزور، جاءت خطة الأهداف الثلاثة التي أعلن عنها جيمس جيفري المبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا، والذي تم تعيينه في شهر آب (أغسطس) 2018. وتبنت تلك الخطة ثلاثة أهداف رئيسية تقف وراء بقاء القوات الأميركية في سوريا؛ القضاء نهائياً على تنظيم داعش والحرص على عدم عودته، ودعم انتقال سياسي في البلاد، ومحاربة النفوذ الإيراني في سوريا.

إلا أن هذه الاستراتيجية تعرضت لصدمات متتالية نتيجة تصريحات ترامب نهاية عام 2018، التي أعلن فيها عزمه سحب جنود بلاده من سوريا بعد أن أدوا مهمتهم في القضاء على تنظيم داعش. وعلى الرغم من تراجع ترامب عن قراره ذاك نتيجة الضغط الكبير من قبل الكونغرس وكبار موظفي إدارته، إلا أن القرار ترك أثراً عميقاً تجلّى في استقالة وزير الدفاع ماتيس من منصبه، كما أدى إلى زعزعة الثقة في استقرار الوجود الأميركي حتى تحقيق خطة الأهداف الثلاثة، وهو ما كان صحيحاً إلى حد كبير، فبعد أقل من عام، سحب ترامب جنوده من مناطق واسعة في شمال شرقي سوريا، مفسحاً المجال أمام تركيا للقيام بعملية عسكرية هناك.

أدى هذا التراجع المستمر لترامب في نهاية المطاف إلى قناعة لدى كل الأطراف المؤثرة في الملف السوري، بأن الولايات المتحدة ليست مهتمة إلى حد بعيد بمصير البلاد وتوازن القوى فيها، ما سيفسح المجال أمام تمرير ملفات سياسية كانت من غير الممكن أن تمر سابقاً، ويبدو أن مشهد اللجنة الدستورية اليوم هو أحد أوجه هذه السياسيات التي ستطبع المرحلة المقبلة، والتي تبدو انعكاساً لتراجع الولايات المتحدة عن ممارسة أي ضغوط جدية بشأن أحد بنود استراتيجية الأهداف الثلاث، أي البند المتعلق بدعم الانتقال السياسي في سوريا.

وبينما يبقى الجنود الأميركيون اليوم في سوريا، في مناطق النفط وجنوباً في قاعدة التنف، لا يبدو أن الهدف الرئيسي من بقائهم هو الحفاظ على نفوذ واشنطن في الملفّ السياسي السوري، بل مواصلة الضغط على طهران التي تتعرض منذ بداية العام لعقوبات أميركية مشددة، وهو ما يعني أن الملف السوري في واشنطن عاد إلى يد الخارجية وخرج من يد البنتاغون، الذي يبدو أن يصارع للحفاظ على الضغوط المشددة تجاه إيران، في ظلّ وجود رئيس متردد ومتناقض السياسات، بدا أنه كان على وشك القيام بتخفيف تلك العقوبات مقابل لقاء قمة مع الرئيس الإيراني خلال أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة في شهر أيلول (سبتمبر) الفائت.

لم تكن استراتيجية الأهداف الثلاث متماسكة أصلاً منذ لحظة إعلانها، لكن يبدو أنها قد باتت اليوم من الماضي رغم عدم التراجع الرسمي عنها حتى الآن. وإذا كانت الشخصيات التي أحاطت بترامب طوال سنوات حكمه الماضية قد دفعت باتجاه التعويض عن انسحاب أوباما من ملفات المنطقة، فإن ترامب لم يفعل شيئاً في الواقع سوى استغلال تلك المواقف لانتقاد سلفه على سياسات يقوم هو نفسه بتكرارها.

تحتفظ الولايات المتحدة اليوم بخمس قواعد عسكرية رئيسية في سوريا، أربع منها في شرقي الجزيرة السورية، وإذا كان استمرار وجودها هذا يبعث برسائل واضحة لجميع الأطراف تقول إنها لم تنسحب من الملف السوري تماماً بعد، ولم تتراجع عن سياساتها تجاه الوجود الإيراني في سوريا، إلا مفاعيل التردد والانسحاب تبدو أقوى من مفاعيل الحفاظ على بعض الجنود والقواعد، ذلك أن جميع الأطراف باتت تتصرف على أن انتهاء النفوذ الأميركي مسألة وقت فقط، وعلى أن الولايات المتحدة ليست مستعدة لخوض أي مواجهة جدية على أي صعيد في المنطقة.

الكاتب:الجمهورية نت