هل يمكن استعادة الربيع السوري؟

25

بعد مرور ما يقرب من تسع سنوات على انطلاقة الربيع العربي بداية عام 2011، تبدو نتائجه بالمعنى الحسابي مخيبة لآمال كثيرين بهذا القدر أو ذاك، فباستثناء تونس التي حظيت بانتقال ديمقراطي نسبي، لم يزل متعثرا في حلّ مشكلات التنمية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المتوارثة والمترابطة، فإن تجربة مصر لم تكن جيدة مع وصول الإخوان المسلمين إلى السلطة أولاً، ليأتي لاحقا انقلاب السيسي وعودة العسكر لتدمير أية إمكانية أو أفق للإصلاح.

فيما يبدو الاستعصاء الأسوأ للتغيير في كل من ليبيا واليمن وبشكل خاص في سوريا، إذ بات التغيير في هذه الدول رهن المعادلات الدولية والإقليمية التي تحكم المنطقة، بخاصة بعدما جرى تغيير طبيعة الصراع من ثورة شعبية تطالب بالإصلاح والحريات والديمقراطية، إلى حروب أهلية بين نظام مستبد وقوى أو مجموعات لا تقل عنه تخلفا وعنفا وإرهابا، وهي قوى تدار من قبل أطراف دولية وإقليمية تخوض حروب مصالح وتصفية حسابات في ما بينها على حساب تلك البلدان وشعوبها معا.

رغم كل هذا التشاؤم نستطيع القول إن الربيع العربي شكل جرس إنذار لتلك الأنظمة وغيرها، التي حكمت شعوبها بشكل مستبد، لعقود من الزمن، نجحت خلالها بتبديد ثروات طائلة من دون أن تصنع أي تنمية أو تطوير في آليات ممارسة السلطة واحترام حقوق الانسان، لدرجة أن بؤس هذه الأنظمة جعلها عاجزة عن فهم دلالات هذا الإنذار، مكتفية بالجانب السلبي من الرسالة، الجانب المتعلق بقوة السلطة وقدرتها على كبح جماح الثورات وإعاقة انتصار الشعوب.

من هذه الزاوية يمكن فهم دوافع الرئيس السوداني عمر البشير لرفع سعر الخبز ثلاثة أضعاف، في بلد يعاني أزمات اقتصادية متداخلة بين العقوبات الخارجية وارتفاع في الأسعار ونسب البطالة بين الشباب بشكل خاص، بالتوازي مع انخفاض قيمة العملة وتدهور مستوى المعيشة، فكانت “القشة التي قصمت ظهر البعير”، حيث نزلت الجماهير إلى الشارع في 19/12/ 2018، معلنة بدء ثورتها ضد النظام، والتي شكلت شرارة لانطلاق الموجة الثانية من ثورات الربيع العربي، التي انتقلت بداية إلى الجزائر ولاحقا إلى لبنان ومن ثم العراق.

الانتقال السياسي في السودان شكل علامة مهمة ما زالت تتطور بشكل إيجابي، مع بقاء درجة من التحفظ والخوف من استعداد العسكر والإسلاميين لتكرار تجربة الانقلاب على الشرعية، مع أن رياحهم باتت أقل قوة، فيما المؤسسة العسكرية في الجزائر، والتي ساهمت بإقصاء جزء كبير من رموز النظام السابق، لا ترغب في أن تتخلى عن امتيازاتها بعد، لذلك نراها تقاتل على إجراء انتخابات يرفضها الجزائريون، مؤكدين رفضهم “تكرار السيناريو المصري” لعودة العسكر إلى السلطة، وشعارهم الأهم “يتنحاو قاع” أي فليتنحّوا جميعهم.

هذا الشعار البسيط تحول إلى شيفرة أو كود يمكن للشعوب ترجمته كل وفق لهجته، فسمعنا في شوارع لبنان “كلن يعني كلن”، ورددت شوارع العراق شعار “شلعْ قلعْ”، فرغم تعدد اللهجات يبدو المطلب واحد لكل المتظاهرين، اللذين أعادوا ترجمة الشعار الأول للربيع العربي “الشعب يريد اسقاط النظام”، والمقصود النظام بكل منظومته المادية والسياسية وكياناته الحزبية ومفاصله الاجتماعية وحمولته الأيديولوجية والفكرية أيضا، والتي فتّتت المجتمع إلى طوائف ومذاهب وإثنيات ومناطق، بحيث إن المطلوب الآن إسقاط هذه الأنظمة كمقدمة لاستعادة الهوية الوطنية وإعادة إنتاج أنظمة ديمقراطية تحترم مصالح شعوبها وتصون حرياتهم.

فالأنظمة في المنطقة العربية عموما هي أنظمة استبداد فاسدة، مع تلاوين أو فوارق نسبية بالمعنى السياسي بين نظام وآخر، وهذا يفسر وحدة الإرادة الشعبية في إسقاط هذه الأنظمة المتشابهة كثيرا من حيث البنى والنظم القانونية والتشريعية التي تستند إليها، ومن حيث علاقات الإنتاج وهيمنة الاقتصاد الريعي الزبائني بشكل خاص، ومن حيث أدائها وسلوكها تجاه أي خطر يمكن أن يهدد استمراريتها، حتى أن أغلبها كما في العراق وسوريا لم تتوان عن توزيع ثروات البلاد ومرافقها الحيوية كمنح وهبات لداعميها مقابل الاحتفاظ بكرسي سلطتها المتداعية، والأمر ذاته في لبنان، إنما يتم بتعقيدات أكثر عبر “حزب الله” كوسيط وذراع عسكري لإيران في المنطقة.

وإن كانت الهيمنة الروسية في ملفات السياسة المتعلقة بالمنطقة، تهدف لدعم الأنظمة في مواجهة احتجاجات الشعوب، كإطار لاستعادة توازنات الحرب الباردة في مواجهة الإدارة الأمريكية، مع خطر تركي يتجلى بالطموح لاستعادة الإمبراطورية العثمانية، إلا أن الخطر الأكبر يكمن الآن في الاستراتيجية التوسعية الاستيطانية لإيران في المنطقة عبر عملية تشييع تنخر الجسد الإسلامي الذي أنهكته الحداثة وما بعد الحداثة التي غزت العصر، ما سيؤدي بالضرورة إلى تفتيت الشعوب وتغذية المزيد من التناقضات داخلها، مع إصرار إيران على لعب دور المركز في علاقتها مع دول المحيط أو الهامش التي سقطت في شباكها، كالعراق وسوريا ولبنان، إضافة لليمن غير السعيد.

لذلك تبرز أهمية استعادة تلك الشعوب لقرارها الوطني، وبشكل خاص في لبنان والعراق من خلال رفع العلم الوطني، ورفض كل الأعلام والانتماءات الحزبية والطائفية والمذهبية الضيقة التي فرضتها النخب الحاكمة لتأبيد آليات سيطرتها عبر المحاصصة والتوافقات التي تتم خارج مصلحة الشعوب وبلدانها، في إطار علاقة مشبوهة بين المركز/ إيران، والأطراف/ تلك الأنظمة العربية التي تدور في الفلك الإيراني، لكن الأهم باعتقادي جاء من انتفاضة الإيرانيين أنفسهم، والتي هي استمرار لسلسلة من الانتفاضات الشعبية، زاد من اتساعها وعمقها الآن الأزمة الاقتصادية التي غدت تخنق الجميع في إيران، بعدما قاربت نسب البطالة 40% من الشباب، بحيث يراوح ما بين 25 إل 30 مليون شخص في إيران يعيشون تحت خط الفقر.

ولا يتعلق الأمر بالعقوبات الأمريكية على أهميتها، بل يعود الجزء الأكبر من الأزمة الاقتصادية في إيران وهي أكبر دولة نفطية في المنطقة، إلى فساد سلطة الملالي التي تنفق المليارات من مداخيل البلد على مشروعها التوسعي لدعم أنظمة الهامش التي تعتبرها قوس الممانعة، ولدعم هذا القوس فإن إيران تنفق المليارات أيضا على المشروع النووي وعلى تطوير الصواريخ بعيدة المدى، في وهم أنها ستصبح دولة عظمى في يوم ما، متجاهلة دروس الاتحاد السوفيتي السابق الذي انهار وهو ثاني دولة نووية في العالم، وكان يخوض غمار سباق التسلح قبل أن يصل إلى شوط النهاية في “حرب النجوم”!

فأي مركز يجوع شعبه ليصبح دولة نووية؟ وأي مركز هذا الذي يسعى إلى قيادة العالم 1400 سنة إلى الوراء؟ أعتقد أن الشعوب التي أحرقت صور آية الله الخميني وخامنئي وأتباعهما، والتي انتفضت في المحافظات الجنوبية للعراق قبل شماله، والتي حاصرت وأحرقت القنصلية والمقار الحزبية التابعة لإيران في النجف وكربلاء، وهي ذاتها التي انتفضت في النبطية وصور وسواها من مدن وبلدات لبنان لم تعد تؤمن بمفاتيح الجنة التي يوزعها ملالي طهران، بقدر ما تبحث هذه الشعوب عن مفاتيح الحياة ولوازم العيش الكريم التي سرقت منها باسم ولاية الفقيه المعصوم.

ربما لا يكون سقوط هذا المركز وشيكا، لكنه بالتأكيد سيسقط لأنه يسير بعكس اتجاه التاريخ والحياة، وفور سقوطه ستنهار كل الأنظمة التي ما زالت تدور في فلكه، وربما تتهاوى قبل ذلك لعجزه الفاضح عن منع انهيارها اقتصاديا وسياسيا وأخلاقيا.

الكاتب:انور بدر