الدولة الوطنية والانتماءات القومية والدينية والطائفية

20

لماذا يصرُّ بعض السوريين على أن تكون “سوريا المنشودة” هي “سوريا الوطن” التي تتجاوز الانتماءات الإثنية والدينية والطائفية …الخ، بحيث لا تتأسس عليها من جهةٍ، ولا تتفاعل معها، تفاعلًا سلبيًّا، بالدرجة الأولى، من جهةٍ أخرى؟ في تناول مثل هذا السؤال أو التساؤل، ليس ممكنًا ولا مرغوبًا تقديم إجاباتٍ ناجزةٍ وكاملةٍ وجازمةٍ، بل من الضروري تحويل الأسئلة الباحثة عن إجاباتٍ تغلقها، إلى تساؤلاتٍ تفتح آفاق السؤال والنقاش، وتحفِّز التفكير والحوار، في خصوصها.

للوهلة الأولى، تبدو كلمة “الوطن” ذات معانٍ إيجابيةٍ كافيةٍ لتبرير ذاتها وتسويغ أحقية الحديث عن “الدولة الوطنية” وإيجابية هذه الدولة. فوفقًا لما هو مُفترض، الدولة الوطنية هي الدولة التي تكون، أو ينبغي أن تكون، وطنًا لجميع مواطنيها. وسكان الدولة “الوطنية ليسوا (مجرد) رعايا، وإنما مواطنون، بكل ما تعنيه هذه الكلمة من احترامٍ لإنسانيتهم وحقوقهم المدنية والسياسية والاقتصادية والثقافية. لكن، لهذه الكلمة معانٍ أخرى (قد تكون) أكثر أهميةً. فالتشديد على مفهوم الوطن/ الوطنية يمكن أن يكون أساسًا لإنكار أهمية الأفراد وأولوية حقوقهم. فباسم الوطن قد يُقمع المواطن، وتُلغى المواطنية. وهذا أحد ممكنات معنى القول الشائع “نموت جميعًا ويحيا الوطن”. وبعد، أو بالأحرى، خلال ونتيجة، فصل الوطن عن أهله ومواطنيه “جميعًا”، وربطه وربط البلد بشخص رئيسٍ اغتصب السلطة بالانقلاب أو بالوراثة، أصبحت “سوريا الوطن” مختزلةً في “ٍسوريا الأسد”. وبات مفهومًا لماذا يرتاب كثيرون من أي حديثٍ عن إمكانية أو حتى مرغوبية أن تكون “سوريا المستقبل” “دولةً وطنيةً” بالمعاني الشائعة أو المرجَّحة للكلمة، وفقًا للتجارب التاريخية السابقة.

يمكن لمعاناة الناس من دولتهم، وفيها، أن تؤدي إلى ضعفٍ تدريجيٍّ متزايدٍ في ارتباط الناس بهذه الدولة، بوصفها وطنًا مزعومًا. ومع ضعف “الشعور الوطني” أو ظهور مشاعر النفور من هذا الوطن المُغتصب الذي يقتل أهله و/ أو يذلهم و/ أو يهجِّرهم، لا يرى كثيرون بأسًا في “خيانة هذا الوطن المزعوم”، لكن بجديةٍ أكبر من جدية “خيانة الماغوط”. وتزاد “أخلاقية الخيانة” و”لا-أخلاقية الوطنية/ الوطن”، بقدر ابتلاع هذا الوطن من قبل عصابةٍ تتقيؤه، لاحقًا، بل ومسبقًا، استبدادًا وإفقارًا وإذلالًا.

إن تدمير الوطن، وإفقاد السمة الوطنية معناها (الإيجابي)، إفقادًا جزئيًّا ونسبيًّا، على الأقل، يدفع كثيرين إما إلى “الهروب إلى الأمام أو الأعلى” بتبني انتماءاتٍ إنسانيةٍ عامَّةٍ، تتعالى على الانتماءات الوطنية وما يماثلها، أو إلى “الانزلاق إلى الخلف أو الأسفل”، من خلال النكوص إلى انتماءاتٍ “ما قبل الدولة و/ أو ما فوقها”، والتي تتمثَّل، على سبيل المثال، في الانتماءات الطائفية أو الدينيةٍ أو المناطقية أو العرقية أو الإثنية أو القومية …إلخ. ويمكن لاحتمالٍ/ “خيارٍ” ثالثٍ أن يتشابك مع الاحتمالين السابقين أو أن يكون احتمالًا ومستقلًّا، ويتمثَّل في ضعف أو انعدام الانتماء إلى ما هو عامٌّ ومشتركٌ والتقوقع في فرديةٍ أنانيةٍ، وذاتويةٍ مصلحيةٍ.

كل هذه العوامل والاحتمالات أو “الخيارات” ظهرت، في سوريا، أو لدى السوريين، ظهورًا قويًّا، خلال السنوات الأخيرة. وقد كان الوضع في سوريا مهيأً مسبقًا لظهور مثل هذه الاحتمالات، ليس فقط بسبب عدم التطابق بين الدولة والوطن، وممانعة الاستبداد ومقاومته لإمكانية أن تكون سوريا وطنًا فعليًّا للسوريين، بل أيضًا بسبب عدم التطابق بين الدولة والأمة في سوريا، لدى بعض أبرز الاتجاهات السياسية/ الأيديولوجية التي كانت سائدة فيها (اتجاه العروبية السياسية، والاتجاه القومي السوري، على سبيل المثال أو الخصوص). ولهذا أصبح هناك، على سبيل المثال، من يقبل، بل وبتقبَّل، فصل/ انفصال أجزاءٍ من سوريا، لتكوين دويلةٍ مستقلةٍ، أو للانضمام إلى دولةٍ، قائمةٍ (مثل تركيا)، أو منشودٍ قيامها، (مثل “كردستان”). ولا ينبغي المسارعة إلى التنديد بهذه الآراء، أو استسهال تخوين أصحابها وما شابه. بل ينبغي التحاور معهم، كلما كان ذلك ممكنًا. ففي مثل هذه السياقات، حيث فقدت كلماتٌ، مثل “(خيانة) الوطن”، معانيها الوصفية والتقييمية، ينبغي بالإقرار أنه ليس هناك، أو لم يعد يوجد وطنٌ فعليٌّ يمكن خيانته، وأن من حق الناس، من حيث المبدأ، البحث عن كياناتٍ أخرى ترى أنها تؤمِّن لها حقوقها، وتصون كراماتها، وتشعر أنها وطنها، بمعنىً ما، بدون الإضرار بالآخرين قدر المستطاع.

في ظل مثل هذه المعطيات وما يماثلها، ولوهلةٍ أو أكثر، لا يبدو مناسبًا الحديث عن سورية المنشودة بوصفها دولةً وطنيةً. فحتى بعض المتمسكين ببقاء الكيان السوري، والساعين إلى استمراره، يودون أن يحصل تأسيس سوريا المنشودة بناءً على الانتماءات اللاإرادية (الدينية، و/ أو الطائفية، و/ أو الإثنية …إلخ). فسوريا المنشودة بالنسبة إليهم هي سورية الفيدرالية وفقًا لمعايير إثنيةٍ، ودينيةٍ، وطائفيةٍ، وما شابه، بحيث يكون للعلويين، على سبيل المثال، منطقةٌ فيدراليةٌ خاصةٌ بهم، وكذلك الحال بالنسبة إلى الدروز والكرد والإسماعيليين … إلخ. وعلى الرغم من أهمية فكرة الفيدرالية، وإيجابياتها، بل وضرورتها، فإن إقامتها، على الأسس المذكورة، تبدو غير غير مرغوبةٍ، لسلبياتها الكثيرة، وغير ممكنةٍ، في كل الأحوال؛ فليس هناك جماعة إثنية أو دينية أو طائفية إلخ يقتصر وجود (أغلب) أفرادها على منطقةٍ معينةٍ.

على الرغم من كل ما سبق، وبسببه، ثمة اعتقادٌ بوجود ضرورةٍ سياسيةٍ/ عمليةٍ وأخلاقيةٍ لأي سعيٍّ، نظريٍّ و/ أو عمليٍّ، لقيام “دولةٍ وطنيةٍ” في سوريا. فمن ناحيةٍ أولى، لا يبدو أن للدعوات الانفصالية، الزاعمة الاستناد إلى “المرجعية الدولية”، أساسًا قانونيًّا/ حقوقيًّا، واضحًا وجازمًا، في تلك المرجعية، يسوِّغها أو يسمح لها بتحقيق أحلامها الانفصالية. ومن ناحيةٍ ثانيةٍ، يبدو واضحًا أن كل سعيٍّ للتقوقع حول الانتماءات “الضيقة” وإعطاء الأولوية لها، في الميدان السياسي، لن يقود إلا إلى مزيدٍ من التناحر والتمزق بين السوريين، وسيسهم في تضاؤل قدرتهم على التأثير الإيجابي في “قضيتهم الوطنية”.

من الضروري التشديد على أن السمة الوطنية لسوريا المنشودة لا علاقة لها، أو لا ينبغي أن يكون لها علاقةٌ، بأي أيديولوجيا قومية أو دينية أو طائفية أو ما شابه. بل هي وطنية من خلال ارتباطها بالمواطنة وحقوق المواطنين، بوصفهم أفرادً/ أشخاصًا، بالدرجة الأولى/ ومن ثم بوصفهم منتمين/ منتسبين، إراديًّا، إلى هذه الجماعة أو تلك، بغض النظر عن نسبهم اللا-إرادي، بالدرجة الثانية. والتمييز بين الانتساب/ الانتماء الإرادي والنسب/ الانتماء اللاإرادي أمر أساسيٌّ، في هذا الخصوص. فالدولة الوطنية تقوم على الانتماءات الإرادية التي يتبناها الأفراد ويختارونها، وليس على نسبٍ لا خيار للأشخاص حياله، وقد لا يكون لديهم رغبةٌ في تعامل الآخرين معهم على أساسه. فأن يولد المرء درزيًّا شيءٌ، وأن تكون درزيته أساس هويته السياسية أو غير السياسية، وأساس حضوره أو فاعليته في المجال العام، عمومًا، وفي السياسة خصوصًا، شيءٌ آخر. وينبغي أن يكون للانتساب أولويةً على أي نسبٍ. وليس معنى ذلك أن الانتساب يتعارض بالضرورة مع النسب، وإنما معناه أنه لا ينبغي أن يقرر النسب أمر الانتساب، وإنما ينبغي أن يكون لكل شخصٍ الحق في أن يقرر بنفسه مدى تطابق انتسابه مع نسبه، ومدى رغبته، بوصفه مواطنًا، في تأسيس انتسابه على نسبه. وليس ممكنًا ولا مرغوبًا أن يلغي الانتساب النسب، إلغاءً نهائيًّا أو كاملًا، لكن يمكن له أن يحجِّمه، تحجيمًا جزئيًّا ونسبيًّا، على الأقل، ويحدد دوره وقيمته وأهميته. فيمكن للإسماعيلي أن يبقى اسماعيليًّا، بمعنى ما وفي سياقاتٍ ما، بدون أن يكون راغبًا في أن يكون لاسماعيليته دورٌ أو حضورٌ، في الشأن السياسي أو الاقتصادي مثلًا. ولا ينبغي المطابقة مسبقًا بين الانتماء/ النسب اللا-إرادي والأيديولوجيات القائمة على هذا الانتماء/ النسب. فالعربي أو السني أو الكردي ليس بالضرورة عروبيًّا أو سنويًّا أو كردويًّا، وقد لا يكون هناك معنى للحديث عن كونه عربيًّا أو سنيًّا أو كرديًّا، في مجال السياسة، مثلًا وخصوصًا.

ليس سهلًا إقناع الآخرين، أو حتى إقناع الذات، بمرغوبية “الدولة الوطنية” وضرورتها، ناهيك عن إمكانية تحقيقها. فثمة مخاوفٌ حقيقيةٌ، مشروعةٌ ومسوَّغةٌ، من إعادة إنتاج “وطنٍ” يقمع ويضطهد مواطنيه، أفرادًا و/ أو جماعاتٍ، بحجة الوطنية المزعومة. وفي كل الأحوال تبدو “الدولة الوطنية/ سوريا الوطن” ضروريةً لخلاص السوريين، بوصفهم سوريين، من كثيرٍ من أشكال المعاناة ودرجاتها. والهدف الأساسي الذي ينبغي للسوريين الاتفاق عليه ليس وجود سوريا بحد ذاته، وإنما خلاص السوريين عمومًا من معاناتهم، واستردادهم لكراماتهم، وتمتعهم بحقوقهم وحرياتهم. و”الدولة الوطنية” الموصوفة هي الغاية المرحلية، أو الوسيلة الضرورية لتحقيق هذا الهدف الأساسي. لكن في حال كان هناك إمكانية أكبر لتحقيق هذا الهدف، بطرقٍ أو وسائل أخرى، فمن الضروري، عمليًّا وأخلاقيًّا، اتباعه. وحينها، لا ينغي لأحد ان يتردد في أن يقول ما قيل إن هرقل قاله، حين كان واقفاً على أطلال سوريا، قبيل مغادرته إياها: “وداعًا سوريا، وداعًا لا لقاء بعده”.

قد يجد كثيرون أنه ليس مناسبًا، من حيث التوقيت والظروف عمومًا، الانخراط الآن في النقاشات الدائرة عن “سوريا المنشودة”، في ظل استمرار “سوريا الأسد” واستمرار جرائمها وجرائم داعميها ومرتزقتها. وبدون إنكار وجود معقوليةٍ، جزئيةٍ ونسبيةٍ، في مثل هذا الاعتراض المحتمل، ينبغي التفكير في إمكانية أن يسهم وضوح رؤيتنا ﻟ “سوريا المنشودة” واتفاقنا العام حولها، وسعينا من أجل تحقيقها، في المساعدة على التخلص من “سوريا الأسد”. وعلى هذا الأساس، قد يكون ضروريًّا أن يترافق السعي إلى التخلص من “سوريا الأسد” مع السعي إلى إقامة “سوريا الوطن”.

الكاتب:حسام الدين درويش