لا إكراه: في الدين، في السلطة، في الحب!

23

الحرب القاتلة، هي بالضبط لغة الإكراه وفرض القوة القهرية فيما يسمى تاريخياً، إكراه السلطة! فهل هي وحدها القاتلة؟ وهل ثمة إكراه يوازيه قيمة في معنى الوجود والحياة؟

أهوال الحرب لا يمكن أن تصفها كلمات، خاصة عندما يتعرض الأطفال والنساء والشيوخ لشتى أصناف الحصار والقصف البري والجوي، كما يحدث في معرة النعمان اليوم وقبلها عشرات المدن السورية، ربما حينها تتساوى لحظة الحياة والموت، لحظة الخوف والرعب مع بصيص الأمل بالنجاة، ومع هذا خبراء الحرب يقولون: ما دمت تسمع صوت الرصاص فتيقن أنك ناج من الموت، أما تلك اللحظة التي لا تسمعه بها، ربما تكون لحظة موتك، لكن، وهذه الـ “لكن” لليوم لعنة كبرى، لعنة تاريخ وثقافة وموروث!

هل ثمة صنوف للموت القهري توازي الموت في آلة الحرب؟ فقد تعددت الأسباب والطرق والموت في سوريا واحد، وهذا ما لم يمكن المجازفة في ممارسة الصمت عنه! فالحرب قاتلة الأطفال منذ تسع سنوات لليوم، قاتلة السلام والحب وقاهرة الآباء والأمهات كشكل لممارسة الإكراه في السلطة ليست وحدها القاتلة، فثمة قتل بطريق الإكراه ذاتها وإن اختلفت أدواتها، لا لمقارنتها بنموذج القتل البغيض في الحرب، بل لأن آثارها النفسية والثقافية تستمر زمناً تصعب على الروح والنفس البشرية رتقها بسهولة، وتكاد تستعصي على اللغة والفكر والإحساس الآدمي.

في مشهد يومي تكرر للعام التاسع، وبينما يرتقب الأطفال مرور “بابا نويل” حامل الهدايا والأمنيات بعام جديد وسعيد؛ صوت مفرقعات السماء تغري الأطفال للنظر إليها، لتفاجئهم غارة جوية تقتل طفلات ثلاث دفعة واحدة في إدلب قبيل أيام من أعياد الميلاد المجيد!

في مشهد آخر: شاب يطلب ابنة عمه البالغة 17 عاماً للزواج، ولكونها طالبة ترغب في متابعة علمها ولا تحبه أصلاَ رفضته، فكان أن فتح عليها قنبلة يدوية فماتت! وهذا الموت لم يكن في ساحة حرب، بل في منطقة، كالسويداء، صنفت آمنة وبعيدة عن دوامات الحرب السورية؛ حيث تم تجنيد الشباب العاطل عن العمل في ميليشيات عدة بعناوين متعددة كـ “الدفاع الوطني” وغيرها، ولم يذكر يوماً انهم مارسوا هذه الصفة، “الوطنية” في أعمالهم، بقدر ممارستهم الخطف والابتزاز وتجارة المخدرات وتعاطيها، كما العديد من حالات القتل العمد، خاصة تلك المتعلقة بمسائل الحب والزواج! فقد تكررت مرات عدة ظاهرة القتل بقنبلة يدوية لفتاة ترفض الإكراه في الحب!

في مشهد ثان: زوجة شهيد تحت التعذيب، جبرت خاطر نفسها، تحملت كل صنوف القهر وليالي الحزن والانتظار، حملت أطفالها وباتت لاجئة في دول الشتات؛ وفي محاولتها استرداد وجودها القيمي والإنساني والوجودي، تجد نفسها وذاتها تتعرض لمحاولات عدة من نماذج التحرش! فقط لكون المتحرش يعتبرها أرملة سهلة النيل! فلربما تعبر حوادث التحرش عن قاع مجتمعي ضحل لم تنفك عقده الجنسية والتحررية بعد وهذا موروث عام! لكن أن يُمارس هذا الفعل من خلال الزعم بالعمل السياسي فهنا الطامة الكبرى! فالفرض بأن التحرش فعل مجتمعي يدلل على تأخره التاريخي لا يمكن أن يبرر ممارسات بعض الضالعين فيه وهم يمثلون “قيمة سياسية ووطنية” يفترض أنها تمثل جزءاً من الجانب المشرق لحياة مختلفة عن طريقة السلطة التي وقفوا ضدها! هذا المشهد لم تفتح سجلات الموت عداداتها، بل ثمة قيمة تهدر وروح إنسانية تتعرض للقهر والاضطهاد مرتين: مرة بفعل إكراه السلطة على التهجير بعد القتل العمد في المعتقلات، ومرة ببعض من تلك الأدوات التي سمت نفسها ((معارضة)) وعملت على انتهاز كل الفرص السياسية والحياتية والمالية لأغراضها النفسية القهرية فكانت شكلاً آخر ونموذجاً مطابقاً، بل يزيد عليه، لنماذج إكراه السلطة وفرض الإرادات بالقوة القهرية! مشهد ما زال يتكرر، لا في مناطق الحرب السورية، بل في دول اللجوء والأمان والحريات والديموقراطية!

في مشهد ثالث: يطالعك الكثيرون ممن يرددون تلك المقولة النكراء “لا تجوز الرحمة عليه”! من؟ هو المفكر والباحث التنويري المرحوم الدكتور محمد شحرور! هو صاحب كتاب القرآن والكتاب، والذي تناول فيه محاولة قراءة القرآن الكريم قراءة عصرية تميز بين الأخلاق بوصفها هوية كونية تناولها القرآن في آياته المحكمات، حسب وصفه، كما باقي الأديان قبلها، وبين تلك الآيات المتشابهات التي تحدد قوانين الحكم ومجاز تغيراته وتتبعه لها بين آيات مكية وأخرى مدنية..  ومع أنه يعلن إسلامه النقي كلية، لكن لكونه أعمل عقله فهو خارج عن الإسلام ولا تجوز عليه الرحمة! ولم يكن المشهد الأول بل تكرر مع كثيرين قبله كالمفكر والفيلسوف السوري صادق جلال العظم والفنانة الوقورة والمحترمة مي سكاف، والمستهجن أن الثلاثة كانوا ممن أيدوا الثورة والتغيير!

ثلاثية الإكراه هذه في الحب والسلطة والدين مؤكد لا تستنفدها المشاهد الثلاث أعلاه، ويمكن إفراد صفحات في تحليل ظاهرة كل منها على حدة لا تكفيها مقالة رأي، فالواقع الحياتي تكتظ به الألاف من مشاهد الإكراه والقهر التي مورست وتمارس على السوريين، في المعتقلات، في مخيمات اللجوء، في دول الجوار، في نبذ المعتقلات لكونهن قد تكن تعرضن للاغتصاب! ثلاثية مركبة على نموذج مركزي في الذهنية والعقلية طابعها الأوضح الإكراه بالقوة القهرية فكرياً ومادياً، فالتكفير يساوي تماما فعل قطع الرأس الإرهابي، والموت في المعتقل يكافئ تماماً الموت وحيداً حين ينبذك مجتمعك ويفتي بحرمة الرحمة لكونك مختلف فكرياً، وقتل فتاة لا تبادلك المشاعر لا يقل إرهابا عن أفعال داعش في السبي والنخاسة وعن ممارسات السلطات القهرية في الحرب اللعينة… مع فارق مهم يتمثل في نموذج من الدونية الذهنية والنفسية والعقلية، والدونية هنا ليست صفة تحقير قيمية فقط، بل تقليل موضوعية، تجعل حاملها يحاول إجبار الطرف الآخر بالإكراه على قبوله والا حذفه من الحياة بالقوة الإعلامية والتي تصل لحذفه من الحياة بالقوة المادية بالقتل!

“الثالوث المحرم” لـ”بوعلي ياسين”: الدين والجنس والسياسة هي ذاتها ثلاثية الموت الساري في مجتمع لم ينجز بعد ثورته الوطنية، ولا عقده الاجتماعي بجذره النفسي بالقبول بالآخر المختلف طوعاً، ولم يتمثل مقولته الثقافية الكبرى “لا إكراه في الدين”؛ لتبدو اللوحة الحالية من عالم اليوم الذي نعيش فيه مزيدا من الموت المجاني والمعلن حرباً، والتهجير قسراً وبين هذا وذاك استمرار للجانب المظلم لذئبية الإنسان وانكشاف تعطشه للقهر والفتك بالآخر من دون إشباع، فقط لأنه امتلك قوة قهرية تمكنه من ممارسة “مازوشيته” تجاه الآخر حسب تعبير “ايرك فروم” في كتابه “الخوف من الحرية”، وهذا الفعل يمارسه الفرد كما المؤسسة كما المجتمع والأمة حين يمتلك قوة تجعله يشعر بأنه لا يقهر، فيقهر غيره ويميته حياً قبل دفنه جسداً!

هل ثمة فارق في الموت حين تفاجئك الحياة بإحدى اللعنات تلك: لعنة تكفير أو قصة تحرش وابتزاز انساني أو موت في معتقل أو اغتصاب جسد أو قتل رافضه أو صاروخ يقتل الأطفال! الفارق الممكن رهن بالوجود والعدم، رهن بسماع القصة أو كتمها، رهن بشروط الحياة الإنسانية أولاً، وهذا ما بات لليوم محذوفا من حياتنا ما دام ذات الإنسان يمارس كل طرق الإكراه ديناً وحباً وسلطةً بذات الجذر ولكن بطرق وحشية متعددة…

الكاتب:جمال الشوفي   – المصدر:بروكار برس