عن روسيا في بلاد عربية

39
تحت عنوان “بين روسيا وتركيا: نحن إلى جانب بوتين”، كتب الرئيس السابق للاستخبارات العسكرية الإسرائيلية، غيورا أيلاند، في “يديعوت أحرونوت”، مقالاً ذا أهمية استثنائية، من أهم ما جاء فيه قوله “قبل 11 عامًا جاء إلى إسرائيل رئيس معهد أبحاث روسي، وفي الاجتماع الذي حُدّد لي معه ومع أطرف إسرائيلية أخرى، قال إن الخطر الأكبر على السلام في العالم هو قيام “داعش”. صحيح أن اسم “داعش” يومها لم يُذكَر، لكن الظاهرة التي يمثلها “داعش” تكلم عنها الباحث الروسي بدقة مدهشة. تحدّث عن قيام خلافة إسلامية في العراق الآخذ في التفكّك، خلافة ستحاول السيطرة على الشرق الأوسط، ومن هناك تمد أذرعها شمالًا من طريق الجمهوريات الإسلامية للاتحاد السوفياتي سابقًا نحو روسيا. وفي موازاة ذلك، ستحاول استغلال ضعف الغرب كي تتوجه نحو أوروبا. وفي لقاءات عقدتها مع جهات روسية رسمية أكثر، كرّر هؤلاء أمامي ادعاءات مشابهة”… هل كان المسؤولون الروس (في عام 2004) يمارسون نوعاً من التنجيم؟
أعادتني التداعيات المتلاحقة في ليبيا إلى كلمات المسؤول الاستخباراتي الإسرائيلي السابق، كما أعادتني إلى لقاء، قرب منتصف التسعينات، مع المفكر القومي، عصمت سيف الدولة، رحمه الله، سمعت فيه منه الكثير مما يستحق أن يروى، وبعضه يشير إلى علاقة متميزة ربطت الرجل بنظام رئيس يوغوسلافيا السابقة، الراحل جوزيف بروز تيتو. ومن مدهشات ما حكى أن الوحدة المصرية السورية العراقية (1958) أجهضها الاتحاد السوفييتي، وأنهم أرسلوا رسالة إلى الرئيس جمال عبدالناصر، من خلال تيتو، يطلبون منه زيارة موسكو في أقرب وقت، فتمت زيارة سرية، قال له فيها قادة الكرملين بوضوح: إلا العراق.
وقد تسهم هذه الحقيقة في فهم جزئي لما شهده العراق تحت حكم الضابط الشيوعي عبدالكريم قاسم من تعمد التباعد عن القاهرة. كان قادة الكرملين قالوا لعبدالناصر بوضوح إن أمن الاتحاد السوفيتي يبدأ من الهلال الخصيب، وإن أي إحياء قومي في المنطقة (مشروع الوحدة بخطابه القومي) من المرجّح أن يؤدي إلى إحياء قومي عابر للحدود يصل إلى البطن الرخو للاتحاد السوفييتي.
ومع امتداد الربيع العربي إلى سورية، كان متوقعاً، في أية لحظة، أن تتحرك روسيا بشكل مباشر، لكن استشعار الخطر، كما هو واضح من كلام غيورا أيلاند، بدأ مباشرة بعد إطاحة نظام صدام حسين في العراق (2003)، واليوم تتحدّث روسيا عن “شجرة محرّمة” جديدة بتأكيدها ضرورة “علمانية سورية” (2015)، فلا العروبة ولا الإسلام يمكن أن يكونا رابطة سياسية في المنطقة التي تحمي روسيا تفكّكها منذ خمسينيات القرن الماضي على الأقل.
وبعد أن تحرّكت في سورية، مدعومة بدعم معنوي سخي من الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، وهو دعمٌ غير مسبوق منذ قيام الاتحاد السوفييتي، تتحرّك مرة أخرى في ليبيا ضد الحكومة الشرعية التي جاء بها الربيع العربي، ما قد يساهم في تفنيد ضلالاتٍ تردّدت بسذاجةٍ أحياناً، وبغرض الخداع المتعمّد أحياناً أخرى، عن روسيا حليفا للعرب (هكذا بجرّة قلم)، ضد الغرب المتآمر على جانبي الأطلسي، هذا الذي يقف “وحده” في طريق وحدتنا وحريتنا!
وتتساقط من بين سطور مقال غيورا أيلاند، المشار إليه، أسئلة تستحق الوقوف أمامها عن حقيقة الموقف الروسي من الديمقراطية في المنطقة العربية، ودورها في مكافحة الإرهاب، خصوصا أنها، بالدليل القاطع، توقّعت، وربما تنبّأت، وربما ساهمت في التغاضي عن ظهور “داعش”، واستفادتها الكبيرة من ظهور “داعش” تجعل من المشروع التساؤل عن مصداقية الاتهامات التي وجهها لها ضابط الاستخبارات الروسي المغتال في لندن، ألكساندر ليتفيننكو (نوفمبر/ تشرين الثاني 2006)، بشأن تجنيد الاستخبارات الروسية قيادي تنظيم القاعدة، أيمن الظواهري.
لم يزل الجانب الأكبر من الحقيقة في العالم العربي المعاصر حبيس صناديق سوداء مُحكمة، وما يسهم في انتشار ضلالاتٍ كثيرة. وفي ليبيا، قد تنقشع غيوم بعض الضلالات الأكثر رواجاً عن روسيا في عيون العرب .. فهل انكسرت الأيقونة الروسية في ليبيا؟
الكاتب: ممدوح الشيخ   – المصدر:العربي الجديد