عفرين السورية.. هوية كردية في مهب “حروب التتريك”

32

ليس ببعيد عن ديارهم، احتشد قاطنو مخيم بَرخُدان (المقاومة) شمالي حلب للتنديد بالغزو التركي لمدينتهم عفرين، رافضين ممارسات الجيش التركي والمجموعات المسلحة التابعة له، ومطالبين بالعودة إلى أرضهم التي هُجّروا منها منذ قرابة عامين.

فمنذ بدء العملية العسكرية التركية في منطقة عفرين الكردية السورية بتاريخ 20 يناير 2018، انطلق النزوح القسري للسكان الأصليين الأكراد من المنطقة، حيث أسفر الغزو التركي عن نزوح 300 ألف كردي من عفرين واستيلاء مسلحي الجماعات التابعة للقوات التركية على مزارع الزيتون العائدة للفلاحين الأكراد إضافة للعبث وتخريب الكثير من المعالم الأثرية والثقافية في المنطقة، بحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان.

وتتهم منظمات حقوقية كردية وسورية ودولية القوات التركية والمجموعات المسلحة التابعة لها في عفرين، بارتكاب كافة أنواع الانتهاكات التي ترقى لجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية بحق أبناء المنطقة، في مسعى لإجبارهم على مغادرة منازلهم وأراضيهم لتنفيذ عملية تغيير ديمغرافي بغية تتريك وتعريب المنطقة.

وأشار عضو الهيئة القانونية الكردية المحامي حسين نعسو في لقاء مع “قناة الحرة” بأن نسبة الأكراد في عفرين انخفضت إلى 20 في المئة، بعد أن كانت منطقة ذات هوية وخصوصية كردية بحتة وصرفة، حيث كانت نسبة الأكراد قبل الاحتلال التركي لها تتجاوز 95 في المئة من مجموع السكان.

ويؤكد نعسو “منذ اليوم الأول كان هدف العدوان التركي هو القضاء على الوجود الكردي في عفرين وبقية المناطق الكردية الحدودية، لإنشاء حزام سني تركماني موال لها، وفي سبيل ذلك تستقدم تركيا المستوطنين من عوائل المسلحين من مختلف المناطق السورية وتُسكِنهم في منازل وبيوت المُهجّرين الكرد”.

وتُعتبر منطقة عفرين ثاني أكبر التجمعات السكانية الكردية في سوريا بعد مدينة قامشلي في إقليم الجزيرة، وتقع في أقصى الشمال الغربي لسوريا وتبلغ مساحتها 3850 كلم مربع، وتتبع إداريا لمحافظة حلب.

انتقلت السيطرة على المنطقة في يوليو 2012 إلى وحدات حماية الشعب (الكردية) بعد انكفاء قوات الحكومة السورية إلى مدينة حلب، وفي بداية عام 2014 تأسست في عفرين الإدارة الذاتية الديمقراطية. ووفقا لتقديرات غير رسمية بلغ عدد السكان فيها حتى مطلع عام 2018 أكثر من نصف مليون نسمة.

اليوم وبعد مرور عامين على بدء الجيش التركي والمجموعات المسلحة التابعة له هجومها العسكري، لا يزال المهجرون من عفرين على بعد بضع كيلومترات عن مدينتهم، ويقطنون أربعة مخيمات وقرى وبلدات منطقة الشهباء شمالي حلب.

يقول المسؤول في الإدارة الذاتية سليمان جعفر، للحرة، إن ثلث النازحين من عفرين لا يزالون موجودين في منطقة الشهباء، فيما توجه القسم الآخر منهم إلى مدينة حلب أو مناطق في شمال شرق سوريا.

وفي أكثر من مناسبة تحدث مسؤولو الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا وقوات سوريا الديمقراطية عن أن موضوع تحرير عفرين وعودة أهلها بشكل آمن إلى ديارهم يعتبر من القضايا الرئيسية في اللقاءات التي يجرونها مع الأطراف المختلفة وعلى رأسها الجانب الروسي.

وفي هذا الصدد، قال نائب الرئاسة المشتركة للإدارة الذاتية الديمقراطية لشمال وشرق سوريا بدران جيا كرد، للحرة، “الوضع الراهن في سوريا والمنطقة يواجه متغيرات آنية ومفاجئة وقد يحصل تغيير في التوازنات الموجودة حاليا بالتالي تكون هناك آفاق وتحالفات جديدة من أجل تحرير عفرين”.

ويعاني النازحون في منطقة الشهباء من ظروف إنسانية قاسية ومن أوضاع معيشية صعبة، فجميعهم فقدوا كل ما كانوا يملكونه في عفرين للنجاة بأنفسهم، كما أن فرص العمل قليلة جدا في المنطقة، والدعم المقدم من قبل الجهات الإغاثية أو الإدارة الذاتية في مناطق شرقي الفرات يخضع لقيود ورسوم جمركية تفرضها قوات النظام السوري.

وتتعرض الشهباء التي تسيطر عليها عسكريا قوات النظام ومجموعات موالية لها، وتتواجد فيها قواعد عسكرية للقوات الروسية، للقصف والاستهداف المتكرر من جانب الجيش التركي والمجموعات المسلحة الموالية له، ما يتسبب بخسائر في صفوف المدنيين من مهجري عفرين. وأدى قصف نفذته المدفعية التركية في ديسمبر الماضي على مدينة تل رفعت إلى مقتل 10 مدنيين بينهم ثمانية أطفال، إضافة إلى إصابة 13 آخرين.

ويؤكد جيا كرد الذي حضر عدة جولات تفاوض مع الحكومة السورية برعاية الجانب الروسي، أنه إذا ما تم التوصل إلى اتفاق سياسي في الحوار مع دمشق، ستكون إحدى التفاهمات المشتركة بين الإدارة الذاتية والحكومة السورية هو تحرير المناطق المحتلة، في إشارة إلى عفرين ومناطق سري كانيه/راس العين وتل أبيض التي سيطرت عليها تركيا في اجتياحها الأخير لشمال شرق سوريا، ومحاربة الإرهاب.

وعقب سيطرة تركيا على منطقة عفرين شنت المجموعات المسلحة التابعة لها عمليات نهب واسعة وتخريب لممتلكات المدنيين والآليات والمحلات التجارية التي يملكها أهالي عفرين الذين فروا من المدينة.

وفي هذا الصدد قال جعفر “المسلحون التابعون لأنقرة وعقب سيطرتهم على عفرين استولوا على سيارتي الخاصة وعلى منزلي وكل محتوياته، كما أن المنزل الذي أملكه في قرية باصوفان جرى تحويله إلى مقر عسكري من قبل مسلحي مجموعة فيلق الشام”.

حول عمليات توثيق الانتهاكات الجارية في عفرين تقول العديد من المنظمات الحقوقية بأنها تواجه صعوبات جمة في ذلك، بسبب الترهيب والتضييق الممارس من قبل المسلحين التابعين لأنقرة على الأهالي، كما أن النشطاء لا يستطيعون التحرك، ناهيك عن التعتيم الإعلامي حيث لا يُسمح للإعلام المحايد أو المستقل الدخول للمنطقة، لذا تؤكد المنظمات الحقوقية بأن ما يتم تسجيله وتوثيقه لا يُمثل سوى نصف الانتهاكات والجرائم التي تحدث على أرض الواقع.

في هذا الإطار كشف نعسو “قمنا بتوثيق جملة من الجرائم، منها على سبيل المثال حالات الاختطاف التي تجاوز عددها 6000 حالة، ما زال مصير 2100 شخصا من هؤلاء مجهولا، كما أن 1100 مدني قُتل منذ بدء العدوان التركي على عفرين منهم 68 حالة تحت التعذيب”.

ونشرت منصات إعلامية كردية تقارير ومقاطع فيديو تثبت قيام المسلحين التابعين لأنقرة باختطاف مدنيين أكراد ممن لم يغادروا عفرين أو تلفيق التهم لهم جزافا وذلك بغية اعتقالهم وطلب الفدية لاحقا.

وفي كثير من الحالات وعندما يعجز ذوو هؤلاء عن دفع المبلغ المطلوب يعمد المسلحون لقتل المخطوفين، كما وقع في حادثة قتل الطفل محمد رشيد خليل من ذوي الاحتياجات الخاصة ووالده وقريب ثالث لهما، وذلك بعد عجز أسرتهم عن دفع مبلغ 100 ألف دولار طلبها الخاطفون مقابل إطلاق سراحهم.

منظمة سوريون من أجل الحقيقة والعدالة وثقت قيام القوات التركية والمجموعات المسلحة التابعة لها والمسماة “الجيش الوطني”، باعتقال ما لا يقل عن 506 أشخاص بينهم 30 امرأة وثمانية أطفال في منطقة عفرين خلال النصف الثاني من عام 2019، وتم الإفراج عن 195 شخصا منهم بعد أن قام هؤلاء أو ذويهم بدفع مبالغ وفديات مالية.

وكانت لجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن سوريا التابعة لمجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة قد أشارت في تقريرها سبتمبر الماضي، أن هناك أسباب معقولة للاعتقاد بأن أفراد مليشيات المعارضة السورية في عفرين واصلوا ارتكاب جرائم الحرب المتمثلة في أخذ الرهائن والمعاملة القاسية والتعذيب.

كما تشير التقارير إلى استمرار المجموعات المسلحة التابعة لتركيا بمصادرة منازل وممتلكات الأكراد المهجرين من عفرين، إضافة لنهب وسرقة محصول الزيتون للعام الثاني على التوالي.

وكانت صحف ومواقع إعلامية قد كشفت عن أن “تركيا وعبر وكلائها استولت في 2019 على 100 مليون دولار من إنتاج موسم الزيتون في عفرين” التي يوجد فيها 18 مليون شجرة زيتون.

ويشير اقتصاديون لتعرض موسم هذا العام أيضا للسلب، وأن “قيمته تصل إلى 50 مليون دولار”، حيث وُجِهت اتهامات للحكومة التركية “بسرقة زيت زيتون عفرين وتصديره إلى دول أوروبية لتمويل المجموعات المسلحة التابعة لها”.

إضافة إلى ذلك امتدت ممارسات المجموعات المسلحة التابعة لتركيا إلى نهب المواقع الأثرية وتدمير المزارات الدينية للأكراد الأيزيديين والعلويين وكنائس مسيحية تاريخية. ونشر ناشطون قيام تركيا والمجموعات المسلحة التابعة لها بالتعدي على المواقع الأثرية، من خلال عمليات البحث والتنقيب عن آثارها مستخدمة في ذلك آليات هندسية ثقيلة وأجهزة كشف متطورة الأمر الذي ألحق أضرارا بالغة بالمواقع الأثرية. وبلغ عدد المواقع المتضررة جراء هذه العمليات 46 موقعا من أصل 92 موقعا، منها ما هو مدرج على لائحة اليونيسكو للتراث الثقافي العالمي، وفق التقارير.

فيما يخص المسؤولية القانونية لكل ما يجري في عفرين، أكد نعسو بأنها تقع على كاهل الدولة التركية، وأردف “كل الجرائم تتم بإشراف مباشر من السلطات التركية فالمسلحون يأتمرون بأوامر القوات والاستخبارات العسكرية التركية، ولكون تركيا هي دولة احتلال وفقا للمادة 42 من اتفاقيتي لاهاي 1899-1907 وما ورد فيها من شروط متعلقة بالسيطرة الفعلية على الارض والقدرة على التحكم لاعتبار دولة ما دولة احتلال”.

كلام نعسو يتقاطع مع ما جاء في تقرير لمفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان في يونيو 2018، والذي أشار إلى قيام حاكم ولاية هاتاي التركية بتعيين اثنين من المسؤولين الأتراك للإشراف على الحكم في منطقة عفرين.

وسط الانتهاكات والاتهامات الموجهة إلى تركيا أشار تقرير صادر عن المفوض السامي للأمم المتحدة لحقوق الإنسان في يونيو 2019، إلى المخاوف من إمكانية أن يؤدي السماح للعرب بالاستقرار في منازل الكرد في عفرين بشكل دائم لتغيير التركيبة الأثنية في المنطقة.

إضافة إلى ما سبق تتحدث التقارير عن قيام السطات التركية في عفرين عن إجبار الطلبة على التعلم باللغة التركية ورفع العلم التركي في المدارس والمؤسسات العامة وربط كل الهياكل الإدارية والخدمية بالمدن التركية، إضافة إلى تغيير بطاقات الهوية والتعريف السورية بأخرى صادرة عن المجالس المعيّنة من قبل تركيا، كما وتعمد هذه المجالس لإزالة أي رمز كردي في المنطقة حيث تم منع الاحتفال بعيد النوروز وتغيير أسماء الشوارع والساحات الرئيسية وتجريدها من أي إشارة إلى هويتها الكردية.

وتشير المعلومات إلى لجوء السلطات التركية لاستخدام الدين أيضا لخدمة مشاريعها في عفرين، حيث قام وقف الديانة التركية بافتتاح حوالي 120 مدرسة دينية في المنطقة.

وفي وقت سابق كشف تقرير صادر عن حزب الوحدة الديمقراطي الكردي في سوريا، عن قيام وقف الديانة التركية وممثلا عن رئاسة الجمهورية التركية ورئيس جامعة الزهراء، بزيارة المنطقة وذلك من أجل فتح مشاريع تعليمية دينية، وكذلك فتح دورات والقيام بأنشطة عبر جمعيات ومدارس خاصة، منها جمعية “شباب الهدى” التي “تروج لأفكار العثمانية الجديدة، تحت مسمى حملة التنوير والإرشاد لتصحيح معتقدات الأهالي وأفكارهم”.

يضاف إلى ذلك قيام المسلحين التابعين لأنقرة ببناء جوامع في القرى الأيزيدية وإلزام مَن تبقى من الأيزيديين بارتيادها واعتناق الإسلام، حسبما أكد سليمان جعفر الذي قال إن المسلحين حولوا أحد منازل قريته الأيزيدية باصوفان إلى مسجد.

هذه الممارسات تعزز المخاوف من تنامي خطر التطرف وتحوّل المنطقة إلى بؤرة جديدة للجماعات الإسلامية المتشددة، حيث كانت تقارير غربية تحدثت عن تجنيد تركيا لمقاتلين سابقين ضمن صفوف داعش في عمليتها ضد عفرين. وتم تداول فيديو على الإنترنت يظهر فيه مسلحين في عفرين يرددون أناشيد كتلك التي كان يرددها عناصر تنظيمي داعش والقاعدة.

لقد أفرزت العمليات العسكرية التركية في مناطق مختلفة شمالي سوريا تغييرا في معادلات الصراع في سوريا، فالمسلحون الذين تحولوا لرأس حربة الغزوات التركية وتركوا المدن والمناطق التي ينحدرون منها خلفهم نتيجة التفاهمات والصفقات بين تركيا وروسيا، ليأتوا إلى المناطق الكردية شمالي سوريا، باتوا اليوم أداة للمشاريع التركية توجههم أينما شاءت من المناطق الكردية شمالي سوريا وحتى ليبيا.

 

الكاتب:نوروز رشو  – المصدر: قناة الحرة