والقادم أعظم

23

تتبادل الأطراف الداخلة فى الصراع فى سوريا ــ سورية كانت أم إقليمية ودولية ــ الاتهامات باللاإنسانية. لكن دون التأمل بمن يُمكن أن يكون إنسانيا، ومن هو الإنسانى، فى انتفاضة تحولت إلى حربٍ أهلية لا نهاية لها؟!
لقد أصدر المرصد السورى لحقوق الإنسان أخيرا تقريرا حول الخسائر البشرية فى سوريا منذ انطلاقة الثورة فى 2011 وحتى بداية العام 2020. لم يلفت هذا التقرير الكثير من الاهتمام، على الرغم من أن أغلب الأطراف تعتبر هذا المرصد هو الأفضل من بين الأكثر موثوقية. أشار المرصد إلى توثيقه لمقتل نحو 585 ألف إنسان فى سوريا خلال الفترة المعنية، من بينهم 88 ألفا فى معتقلات أجهزة الأمن و105 آلاف آخرين من مقاتلى جميع الأطراف دون معرفة هويتهم وصفتهم. أضف أن أكثر من مليونى شخص عانوا من إصابات مختلفة. بالتوازى ذاته تشير آخر مسوحات الأمم المتحدة إلى أن عدد السوريين فى مختلف مناطق البلاد، أى غير اللاجئين إلى بلاد الجوار أو غيرها من بلدان العالم قد أضحى ــ أى عدد السكان ــ نحو 20 مليونا نتيجة التزايد السكانى وأن الفئة العمرية 25 إلى 35 سنة قد اضمحلت كثيرا.
ما يلفت الانتباه فى إحصائيات المرصد هو أن أعداد المدنيين الذين استشهدوا فى الصراع يشكلون ثلث الضحايا، فى حين خسر الجيش السورى والفصائل الموالية له ثلثا آخر، وتوزع الثلث الأخير بين فصائل المعارضة والجهاديين من مقاتلى تنظيم الدولة وغيرهم وأقل منهم قوات «قسد». وما يلفت الانتباه أيضا أن عام 2013 قد شهد العدد الأكبر من ضحايا الصراع ــ 74 ألفا ثلثهم مدنيون ــ فى حين كانت حصيلة عام 2011 نحو 8 آلاف، نصفهم مدنيون وعام 2019 نحو 11 ألفا ثلثهم مدنيون. كما أدى القصف الروسى إلى استشهاد 8 آلاف مدنى، وقصف قوات التحالف إلى 4 آلاف مدنى، وقصف الجيش التركى إلى ألف مدنى. الإحصائيات المنشورة تستدعى كلها «قراءة» متأنية.
***
إن إحصائيات المرصد تعطى صورة متباينة عن سرديات السوريين تبعا لانتماءاتهم ووسائل الإعلام حسب الأطراف التى تناصرها. لكنها، أى الإحصائيات، تطرح سؤالا أساسيا حول نزيف الدم السورى وحول الموقف السياسى، وأولا وأساسا حول الموقف الإنسانى، بالنسبة لمن فقد أبناءه وأهله من جميع الأطراف، وخاصة فى أفق «بيئة محايدة» تضع الأسس للحل السياسى فى سوريا. وهذا السؤال يُمكن التعبير اختصارا عنه بسؤال: من «الشهيد» فى ظل بيئة محايدة أو فى ظل إرادة إعادة السلام بين السوريين؟ سؤالٌ يشكل تحديا للعملية الدستورية القائمة حاليا تحت رعاية الأمم المتحدة، كما لأية سلطة ستقود مرحلة ما بعد الحرب وتحدياتها الاجتماعية والإنسانية.
أما مسوحات الأمم المتحدة الأخيرة فتشير إلى أن 11 مليونا من السوريين من أصل العشرين المتواجدين حاليا على أراضى البلاد قد أضحوا بحاجة إلى مساعدات إنسانية دولية، بينهم نحو 5 ملايين بحاجة ماسة حياتية إلى هذه المساعدات. يتوزع هؤلاء فى مختلف المناطق السورية مهما كانت الجهة المسيطرة. وتتواجد الأعداد الكبيرة منهم فى محافظات إدلب وحلب ودمشق وريفها. نحو 7 مليون لا يؤمنون غذاءهم اليومى دون هذه المساعدات بالإضافة إلى 3 ملايين آخرين يعيشون مخاطر الأمن الغذائى، بينهم 700 ألف يعيشون فى مخيمات شمال سوريا. كما تلفت المسوحات نفسها الانتباه أن مليونى طفل فى عمر الدراسة أضحوا نازحين ولا يصلون إلى التعليم.
جرى المسح الذى أنتج هذه التقديرات فى صيف 2019، أى قبل أن تنفجر الأزمة فى لبنان وتأتى بنتائجها على سوريا وترفع سعر صرف الدولار مقابل الليرة السورية إلى أكثر من ألف. لقد تدهورت الأحوال الاقتصادية بشكلٍ سريع أخيرا منذرة بكارثة إنسانية فى سوريا، بحيث أصبح لبنان المرتبط اقتصاديا بشكلٍ وثيق مع سوريا وكأنه يطبق هو أيضا عقوبات خانقة على جارته. كذلك عمدت الولايات المتحدة إلى السيطرة على المصادر الشحيحة أصلا للنفط السورى، بحيث أبدت حرصها ألا يتم تناقله بين أطراف الصراع السورى كما كان الأمر عليه حتى خلال أسوأ مراحل الصراع معيقة بذلك الرى والزراعة والتنقل فى البلاد.
هذا كله بعيدا عن تطبيق قانون «قيصر» الذى يختلف فى نوعيته عن الإجراءات الأحادية الأمريكية السابقة، فهو يطال المصرف المركزى وكل جهة تتعامل مع الدولة السورية، سورية كانت أم غير سورية. ما يعنى وقف التعامل النقدى والتجارى مع سوريا. ولا يهم نص ما سيتم تطبيق عقوبات «قيصر» عليه، لأن الأطراف الخارجية، مصارف كانت أم شركات، عربية أم أجنبية، ستتوقف احترازيا عن التعامل مع سوريا خشية أن تتسلط عليها العقوبات الأمريكية يوما لسببٍ أو لآخر.
***
لم تُسقِط العقوبات يوما سلطة. ومثال العراق جاسمٌ أمامنا كيف أدت العقوبات عليه، لمدةٍ استمرت أكثر من عقدٍ من الزمن، إلى استشهاد مئات الآلاف من المدنيين، قبل غزوه وتحلل بنيته المجتمعية ليدخل فى حربٍ أهلية وليبرز تنظيم «داعش». كما لم تُرفَع العقوبات سريعا بعد سقوط النظام البائد، بل استفاد بعض «السياسيين» العراقيين المرتبطين بالإدارات الأمريكية وتحايلوا على تفاصيل العقوبات كى يجنوا ثروات كبيرة لمصلحتهم الشخصية.
بالطبع، السلطة السورية مسئولة عما آلت إليه الأمور فى البلاد. مسئولة إنسانيا وسياسيا. ولكن القوى الإقليمية والدولية المتصارعة بالوكالة عبر السوريين تتحمل أيضا مسئوليات كبرى، مسئولية إنسانية فى استشهاد سوريين ومسئولية سياسية فى أخذ سوريا إلى هذا الجحيم حتى تتحقق مصالحها. «كلُن يعنى كلُن»، كما يصرخ اللبنانيون اليوم حيال زعمائهم الفاسدين.
كذلك تتحمل أغلب أطراف «المعارضة» السورية المسئولية الإنسانية والسياسية، انطلاقا من إخفاء الوقائع إلى الكيدية والتواطؤ فى العمل مع بعض الدول المسئولة عن معاناة السوريين وسفك دمائهم، لزيادة هذه المعاناة أو للعب دورٍ على ساحة إعلامية لا فائدة منها مع ما ستؤول إليه أحوال السوريين. بل إن المجتمع المدنى السورى يتحمل مسئولية إنسانية وسياسية بدوره لأنه لا يرفع صوته واضحا وعاليا بالحقائق وبكل المعاناة وليس هذا الوجه أو ذاك منها. من المفترض أن يحمل هذا المجتمع، إن كان «مدنيا» بالفعل، كل المجتمع السورى دون تمييز، رغم مشاكله وتجاذباته ووزن التاريخ القريب. لكن ما يخفف من مسئوليته أنه غالبا ما يكون مضطرا للصمت كى يستطيع أن يقوم بأعمال إنسانية فى ظل تسلط أمراء الحرب بكل مشاربهم والدول بكل مراميها.
إن سوريا تعيش اليوم كارثة إنسانية كبيرة… والقادم أعظم. كارثةٌ تحتِم على جميع الأطراف المعنية مواجهة استحقاقاتها، من أجل جميع السوريين… جميعهم نعم. تشكل الحرب والاحتلالات جزءا من تلك الاستحقاقات، ومعاناة السوريين اليومية الجزء الأكبر منها، وتكتسى مسألة إعادة استنهاض سوريا مع فقدان أغلبية الشباب المتعلمين قتلا أو تهجيرا استحقاقا مفصليا فى مستقبل البلاد. مواجهة هذه الاستحقاقات هى المسئولية الأساسية.

 

الكاتب:سمير العيطة  – المصدر:بوابة الشروق