نحن حاضنة للإرهاب

40
ما زال هناك أناس يناقشون البديهيات والمسلّمات بجدّية صارمة، ويشبعونها أخذاً ورداً وتمحيصاً. عندما يتحدث بعض الإعلاميين عن نجل حافظ الأسد، يخطر لهم أن يتهكموا عليه فيقولون “سيادته”! رجلٌ دمّر نصف سورية وهجّر نصف شعبها، وقتل مليوناً من الناس، وأنزل سورية تحت مديونيةٍ تحتاج إلى مئة سنة للخروج منها، وما زال هؤلاء الإخوة المحترمون يتهكّمون عليه بكياسة مفرطةٍ، ويقولون: سيادته. هل نفد قاموس الكلمات البذيئة التي تناسب مقام هذا المجرم، وبقيت لديكم كلمة سيادته؟ أم أنكم “أكابر” أكثر من اللازم؟
يسمع أحد المحللين الاستراتيجيين جملة من إحدى وسائل إعلام النظام التافهة عن السيادة الوطنية فينبري متصدّياً لها، باذلاً أقصى ما يستطيع من جهد. يزخّ عرق الإجهاد، وهو يحكي عن إرسال بشار الأسد بطائرة شحنٍ من دمشق إلى موسكو، ووقوفه مع مرافقي بوتين ورجال مراسمه في قاعدة حميميم كالنادل، ولا ينسى أن يتطرّق إلى الطائرات الغازية التي وَضعت خطة تنسيق فيما بينها لئلا تتصادم عندما تقصف الأراضي السورية، وعن اللطم في الشوارع، وعقود تأجير المنشآت الاقتصادية السورية خمسين سنة، وهكذا حتى يصل إلى بديهية إن السيادة الوطنية السورية منقوصة.
لا يحق لنظام الأسد أن يذكر كلمة “إرهاب” على شفتيه، إذ لم يعرف العالم، عبر العصور، نظاماً إرهابياً من ألفه إلى يائه مثله.. ولأن مَن لا يستحي يحقّ له أن يفعل ما يشاء، فإن نظام الأسد ما زال يقتل الناس ويهجّرهم من بيوتهم، ويقول إعلامُه التافه: نحن نحارب الإرهاب. وإذا عُرضت عليه صور الشيوخ والنساء والأطفال الذين يركبون الشاحنات، ويغادرون بيوتهم هرباً من الموت، يقول: هؤلاء حاضنة شعبية للإرهاب. وسرعان ما يهبّ السادة المختصون بمناقشة البديهيات، ليلقموه الجواب مباشرة، قائلين: أنتم الإرهاب، يا مؤيدي الأسد، وأنتم حاضنة الإرهاب.
مِن هذا اللغط العجيب، وبغضّ النظر عن اتهامات النظام الإرهابي، والاتهامات المعاكسة، يمكن أن يخرج الإنسان بسؤال مهم، بل وصادم، هو: هل شكل قسمٌ كبير من السوريين حاضنة حقيقية للتنظيمات المتطرّفة التي صُنفت في خانة “الإرهاب”؟ الجواب ليس بسيطاً، ولكنه، برأي كاتب هذه الأسطر: نعم. ولكنها ليست حاضنة واعية، بل إنها تلجأ في “لاشعورها” إلى المفاضلة بين السيئين. ودائماً تصل إلى أن النظام هو الأسوأ، فتغضّ النظر عن الجماعات الإرهابية وحقاراتها. 
حينما كنا صغاراً، ولم يكن لدينا أي نوع من الوعي السياسي والحضاري، شكلنا حاضنةً للفكر البعثي، فكنا نخرج إلى الشوارع، مندّدين بالرئيس التونسي، الحبيب بورقيبة الذي دعا، كما قيل لنا، إلى بيع فلسطين. لم نكن نعرف من هو بورقيبة أصلاً، وكنا واثقين من أن يوماً سيأتي نحرّر فيه فلسطين، على الرغم من أننا نجهل تعقيدات قضيتها.. وأيدنا الوحدة مع مصر، غافلين عن أنها شكّلت ضربة ماحقة للديمقراطية الناشئة في سورية.. ودبكنا في باحات مدارسنا احتفالاً بالوحدة الثلاثية مع مصر وليبيا، وباتحاد الجمهوريات العربية، وعندما يقول لنا أحد ما إن جمال عبد الناصر حاكمٌ مستبدٌّ، ذو نزوع فردي، كنا نقول لأنفسنا: هذا كلام شيوعيين ماسونيين حاقدين، ثم ليكن رئيسُنا مستبدّاً، أليس أحسن من أن يكون رخواً تَشْتُوشاً؟ 
بالعودة إلى النقاش عن حاضنة الإرهاب.. كانت هذه التهمة، وما زالت، ثقيلةً على نفوس السوريين الذين يتعرّضون يومياً للقصف والقتل والتهجير، ويدفعونها عنهم بكل ما أوتوا من حجج وبراهين، وبمجرّد ما تفتح سيرة الإرهاب، يقولون إن تنظيم القاعدة صناعة أميركية، و”داعش” صناعة مخابراتية، وجبهة النصرة صناعة إيرانية، والكل يجمع على أن الإسلام الحقيقي بريء منها. وفي كل الأحوال، لا يوجد أحد بينهم يقبل بالفكرة القائلة إنه لو اجتمعت الصهيونية والإمبريالية والماسونية كلها، وبذلت كل إمكاناتها لصناعة تنظيم إرهابي (مسلم) واحد فلن تستطيع ذلك.

 

الكاتب:خطيب بدلة   – المصدر:العربي الجديد

 

“هذا المقال يعبّر عن رأي كاتبه/كاتبته ولا يعبّر بالضرورة عن رأي المرصد السوري”