الجهاد، الفريضة المزعومة

47

لم يعد من الممكن قبول مفهوم الجهاد حسب الطريقة التي روّجها رجال دين “الصحوة الإسلامية” في القرن العشرين، لأن الأغلبية المطلقة من العمليات الإرهابية التي حصلت في العالم خلال العقود الماضية والتي أوقعت آلاف الضحايا من المدنيين قام بها متطرفون إسلاميون تحت شعار “الجهاد”، بما فيها تلك التي تظاهرت مؤخرا بانتشار عمليات طعن ودهس مواطنين آمنين في كثير من مدن العالم، ولا بد لذلك من معرفة من أين أتى هذا المفهوم وكيف تطوّر استخدامه حتى جعل من جرائم القتل عملا مشروعا وواجبا مقدسا وفريضة يتقرب فيها بعض المسلمين من الله.

الجهاد مصطلح إسلامي حصري لم يرد عند شعوب أو ديانات أخرى، ولم يكن معروفا عند عرب ما قبل الإسلام حتى السنة الثانية للهجرة حين تكرّر ذكره في العديد من الآيات التي تحدثت عن القتال، وكان أهمها سورة التوبة التي استخدمت فيها عبارات القتال والجهاد عدة مرات، ولكن في سياق معارك حدثت مع الرسول نفسه:

“ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم..”، “إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار..”، “يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين..”، “ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله..”، وكذلك في سورة التحريم “يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين”.

لا بد من سن قوانين وطنية تجرّم كل من يكفّر الآخرين، أو يدّعي أن من واجبه معاقبتهم على تفكيرهم

ولكن رجال الدين المتأخرين تجاهلوا أن تلك الآيات تحدثت عن وقائع محددة أثناء حياة الرسول وجعلوا من كلمة الجهاد الواردة فيها، دعوة دائمة للمسلمين لاستخدام القوة ضد كل من يختلف معهم، فقسموا العالم إلى فسطاط الإسلام وفسطاط الكفر، وجعلوا الحرب هي شكل العلاقة بين الفسطاطين، وأطلقوا على قتال المسلمين لأعدائهم اسم الجهاد، وصنّفوه ضمن قسمين:

جهاد الدفع، وهو الدفاع عن “الإسلام والمسلمين والقرآن”، وجهاد الطلب بغاية نشر تعاليم الإسلام وقوانينه، لأنهم يرون أن من أول واجبات المسلمين جلب الناس إلى الدين الحق حتى بالسيف، ثم جعلوا من الجهاد فريضة، مع أن الفروض في التراث الإسلامي معروفة وتقتصر على الصلاة والصوم والزكاة والحج.

ويشرح موقع ابن باز مفهوم الجهاد عند رجال الدين هؤلاء: “الجهاد من أفضل القربات وأعظم الطاعات وأهم الفرائض، لما يترتب عليه من نصر المؤمنين وإعلاء كلمة الدين، وقمع الكافرين والمنافقين وتسهيل انتشار الدعوة الإسلامية بين العالمين ونشر محاسن الإسلام بالجهاد، وكان التشاغل عنه من أسباب ذل المسلمين، وثبت بالنص أن اليهود والنصارى والمجوس هم من الكفار الذين يجب أن يجاهدوا ويقاتلوا حتى يدخلوا الإسلام أو يؤدوا الجزية عن يد وهم صاغرون”.

ويضيف موقع ابن باز أن “سواهم (أي غير اليهود والنصارى والمجوس) فالواجب قتالهم وليس أمامهم سوى الموت أو الدخول في الإسلام، فالمطلوب جهاد المشركين مطلقا وغزوهم في بلادهم حتى لا يكون هناك فتنة ويكون الدين كله لله، ليعمّ الخير وتتسع رقعة الإسلام ويزول من طريق الدعوة دعاة الكفر والإلحاد، وإن ما قاله بعض أهل العلم بأن القتال مفروض فقط على من قاتل المسلمين قد تم نسخها، لأنها كانت في أوقات ضعف المسلمين فلما قوّاهم الله وكثر عددهم وعدّتهم أمروا بقتال من قاتلهم ومن لم يقاتلهم حتى يكون الدين لله وحده..!”.

وتمّت إضافة لمسة إجرامية جديدة للإرهاب الإسلامي في كتاب الفريضة الغائبةللمصري محمد عبد السلام فرج، والذي استند فيه إلى بعض فتاوى ابن تيمية أثناء مواجهة التتار وتفاسير سيد قطب لآيات الحكم والسياسة، وهي تكفير المجتمعات الإسلامية الحالية، وبالتالي ضرورة قتالها باعتبار العدو القريب أشد خطرا من العدو البعيد.

ونتيجة ذلك فقد استخدم الإرهابيون من السنّة والشيعة وسائل أكثر دموية في “جهادهم” ضد مخالفيهم داخل مجتمعاتهم نفسها، وكذلك في الصراع بين الطوائف ضمن الدين الواحد، لأن كل طرف كان يرى نفسه الفئة الناجية المكلّفة من الله بتطهير الدين من المجموعات الأخرى.

وضمن حالة الانفصال عن الواقع، والعيش على أوهام الماضي الأسطوري، أضافوا حركة مسرحية أطلقوا عليها اسم إعلان الجهاد، حيث يصعد رجل دين منبر أحد المساجد في منطقة بائسة منسيّة تعيش على هامش الحضارة محاطا بمجموعة من المراهقين المسلحين بأسلحة بدائية ويلقي خطبة حماسية ينهيها بإعلان الجهاد ضد عدو ما.

وطبعا لم يسبق أن ترتّب على هذه الدعوات سوى مزيد من الخيبات والهزائم، إلا إذا كان العدو المقصود طرفا داخليا ضعيفا حيث يتم حينها التنكيل به واعتبار ذلك نصرا إلهيا، وبعد كل ذلك كان الإرهابيون يعطون قتلاهم الذين لم يكونوا بارعين سوى في قتل الأبرياء لقب شهداء، ويدعون أن الله قد وعدهم بجنّة عرضها السماوات والأرض.

ولمواجهة خطر الإرهاب الذي استفحل عالميا لا بد من التصدي لكامل منظومة التفكير التي أدت إلى ظهوره وتفنيدها، والتي كان أساسها فهم المتطرفين للجهاد، وتنقية الفكر الإسلامي والمناهج التعليمية من جميع الفتاوى التي قادت إليه، ابتداء من تكفير الأديان والطوائف المختلفة واعتبار شكل العلاقة معها هو الحرب.

فعالم اليوم ينظر باحترام لقناعات ومعتقدات جميع البشر، وتعتبر حرية الاعتقاد من أساسيات الشرعة العالمية لحقوق الإنسان، كما أن الاعتداء على دول أخرى بهدف فرض دين معين عليها ترفضه ثقافة العصر، وما يقوله الإسلاميون من أن نشر الإسلام يجعل الخير يعمّ من الصعب ملاحظته في الواقع، فأغلب البلدان الإسلامية تقع في مؤخرة دول العالم من النواحي الاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية، وخاصة تلك التي تقول إنها تطبق الشريعة الإسلامية مثل الصومال وأفغانستان وإيران.

يجب محاسبة من يدعو إلى نشر دين أو مذهب معيّن بالقوة

كما أن مهمة الدفاع عن الدول الوطنية من مسؤولية جيوشها النظامية، وفي جميع المرات التي ادعت فيها تنظيمات أو أحزاب إسلامية جهادية أنها تأسست بهدف الدفاع عن البلد، كانت النتيجة تحكّم ميليشيات هذه التنظيمات بتلك الدول مثل “طالبان” في أفغانستان و”حزب الله” في لبنان و”الحشد الشعبي” في العراق وحركة “حماس” في قطاع غزة.

أما مهمة الدفاع عن القرآن والفكر الإسلامي فمكانه المنتديات والمنابر الثقافية ويجب أن يكون فقط بالحكمة والموعظة الحسنة ورد الحجة بالحجة وليس باغتيال أو إرهاب المثقفين أو محاكمتهم بتهمة الكفر أو ازدراء وإهانة الدين، فليس من مسؤولية أي جهة تحديد من هو المؤمن ومن غير المؤمن أو التدخل بقناعات ومعتقدات الآخرين، وواجب الدولة حماية حرية الاعتقاد عند جميع مواطنيها.

وللتخلص من هذه الأفكار لا بد من سن قوانين وطنية تجرّم كل من يكفّر الآخرين، أو يدّعي أن من واجبه معاقبتهم على تفكيرهم، بل يجب أن يحال للقضاء كل من يطالب بمحاكمة إنسان على آرائه، وكذلك يجب اعتبار من يدعي أن هناك دينا أفضل من الآخر عنصريا مثل من يعتبر أن هناك عرقا أفضل من الآخر.

كذلك يجب محاسبة من يدعو إلى نشر دين أو مذهب معيّن بالقوة، ومن يستخدم مفردة شهيد عند الحديث عن مجرم متّهم بقتل مدنيين، ولكن كل ذلك لن يكون كافيا إذا لم يترافق مع اتخاذ موقف واضح برفض مفهوم الجهاد بالطريقة التي يراه فيها المتطرفون، لأنه يحمل معنى الحرب الدينية التي تفرّق بين البشر حسب إيمانهم وقناعاتهم والتي لا يمكن أن يقبلها العصر الحالي.

 

الكاتب:د.عماد بوظو  – المصدر:الحرة

 

“هذا المقال يعبّر عن رأي كاتبه/كاتبته ولا يعبّر بالضرورة عن رأي المرصد السوري”