الثورة السورية في سنتها التاسعة

31

سنوات تسع مرّت على الثورة السورية التي زرعت أملاً في تصور السوريين للخلاص من نظام رابض كطود فوق الصدور منذ زهاء نصف قرن من زمان صعب، مشبع بأحداث عاصفة داخلياً، وخارجياً جعلت الشعب السوري يعيش حالة من التردي لم يسبق لها مثيل في تاريخه، مع أن سوريا تملك كل الإمكانات والمؤهلات لتجعل منه شعباً سعيداً متقدماً متحضراً. ولكن ما هي الأسباب التي جعلت هذا النظام يستمر في حكمه إلى اليوم وفشلت كل الوسائل لإزاحته؟ وجعلت شعاره السجعي:» الأسد إلى الأبد» يمتد ويتردد مع الزمن الصعب؟

سياسات التفكيك

لقد وضع حافظ الأسد منذ انقلابه في العام 1970، مخطط التفكيك العام في سورية على جميع المستويات، أي تفكيك المنظومة الاجتماعية وتحويلها إلى طوائف، وأعراق وإثنيات متفرقة ينفخ في ما بينها أنفاس البغضاء والضغينة، وتنصيب طائفة حاكمة، وطوائف تابعة، وأخرى مهمشة توضع في خانة «المعادية»، وتفكيك الاقتصاد السوري بجعله يتبع مباشرة للعائلة التي تتحكم به وبتوزيعه وتحويل سرقاته إلى المصارف الخارجية، ثم تفكيك المنظومة الحزبية بجعل حزب البعث الحزب القائد بينما مُنعت أحزاب أخرى وحُوربت، ودفع ببعضها للانقسامات كي يستقطب من والى منها لتشكيل الجبهة الوطنية وتفصيل برلمان المصفقين على مقاسه، وربط سوريا بتحالفات واتفاقيات سرية خارجية للحفاظ على الحكم.
هذه السياسة لم تختلف مع وريثه بل ازدادت تفاقماً وحدة وعدائية لكل من يشم منه رائحة المعارضة فامتلأت السجون، وطالت قوائم الاغتيالات السياسة. وهذا لم يكن غريباً، بل كان نتيجة متوقعة ومحسوبة بأن يواجه هذا النظام ثورة السوريين بالرصاص والكيماوي تحت ذريعة مواجهة الإرهاب وجلب ميليشيات ومرتزقة من وراء الحدود لحماية نظام كاد يتهاوى، ثم دول تحتل من جديد الأراضي السورية وتبني فيها قواعدها العسكرية، وتسيطر على ثرواتها الطبيعية، حتى أن كثرة الأعلام الأجنبية حجبت العلم السوري واستغنى بشار الأسد عنه بقارورة عطر وطير محنط يضعهما خلفه كرسالة لمهديهما في كلمة يعلن فيها النصر على شعبه.
ككل ثورات الربيع العربي التي انطلقت فيها الشعوب عفوياً لتسقط أنظمتها الجاثمة فوق صدورها لعقود طويلة، انطلق الشعب السوري في ثورته وهاجت المدن السورية وماجت بتظاهرات بعد تخطي حاجز الخوف المسيطر، وككل الثورات العربية لم تكن ثورة السوريين ذات تنظيم، ولم يكن وراءها حزب أو إيديولوجية معينة، كالثورات العالمية. والسؤال لماذا أخفقت الثورات العربية بشكل عام (باستثناء الثورة التونسية) والسورية بشكل خاص في تحقيق أهدافها؟
إن سياسة التفكيك في سورية، وإنشاء منظومة إستخباراتية متشعبة ومتغلغلة ترصد أي إشعار بتنظيم سياسي معارض وضربه في حالته الجنينية قبل الاستفحال كما حصل مع حزب «الاخوان المسلمين» في سبعينيات القرن الماضي وتوجيه ضربة قاصمة له في مجزرة مدينة حماة الكبرى في العام 1982، والسيطرة على كل نشاطات المجتمع المدني وتدجينها وإلحاقها بحزب البعث جعل أي نشاط خارج منظومة النظام شبه مستحيل، حتى أن النظام بعد وفاة مؤسسه وتحكم وريثه في مقاليد السلطة لم يتحمل موجة «ربيع دمشق» في العام 2000 التي جمعت مثقفين وقادة رأي يطالبون النظام بإصلاحات سياسية، فقضى عليها في مهدها واعتُقل من اعتُقل وهرب من هرب.

أخطاء المعارضة

ولم يتبق للشعب السوري سوى محاولات لتنظيمات معارضة في الخارج لم تصل إلى مستوى تهديد النظام، ولم تبرز شخصية ما تلتف حولها معارضة متماسكة ومتنورة قادرة على استلام السلطة في حال سقوط النظام كما حاول صلاح الدين البيطار بعد لجوئه إلى فرنسا فتم اغتياله سريعاً في صيف عام 1980. أما التغيير السياسي عبر الانقلابات العسكرية كما كان يحصل سابقاً فبات غير متوقع بعد تطييف الجيش والتخلص من كل الضباط المشكوك في ولائهم.
لقد فاجأ الشعب السوري النظام بثورته، كونه كان مطمئناً إلى أن الاحتياطات والإجراءات المتخذة ستمنع أي محاولة تجمع جماهيري، فأعطيت الأوامر بمواجهة المتظاهرين بالرصاص الحي منذ اليوم الأول. الانشقاقات المتوالية في الجيش وتشكيل «الجيش الحر» لم تتمكن من القضاء سريعاً على النظام الذي أفرج عن كل الإسلاميين من السجون السورية كي يتخذ من « مقاومة الإرهاب « ذريعة في شن حرب لا هوادة فيها على «الجيش الحر» والفصائل المسلحة التي تشكلت سريعاً بدعم خارجي، وبرزت على الساحة تنظيمات دينية متطرفة كـ «داعش» و»النصرة» وسواهما تقابلها ميليشيات انفصالية في الداخل، وطائفية وصلت على عجل من الخارج بتنظيم إيراني جعلت الدول المتعاطفة مع الثورة وخاصة الدول التي وصفت نفسها بـ «أصدقاء الشعب السوري» أن تتخلى عن دعم المعارضة، بل أنها دخلت طرفاً في الحرب الدائرة كالولايات المتحدة، وبريطانيا، وفرنسا، وتحالفت مع القوى الكردية « قسد» لمواجهة «داعش» بعد أن تبنت عدة عمليات إرهابية في أوروبا، ما دفع أيضاً تركيا للتدخل لحماية حدودها من تحالف القوى الكردية ( «قسد» و»ب ك ك»)، وطلب النظام من روسيا التدخل لحمايته أيضاً التي لعبت الدور الأساسي في إحباط الثورة بتحييد الفصائل المسلحة عبر اتفاقات سوتشي ـ أستانا التي تخطت كل قرارات جنيف التي أصدرتها الأمم المتحدة.
المعارضة السياسية السورية التي تشكلت على عجل في التجمع الأول ( المجلس الوطني) لم تفلح في تنظيم جسم معارض قوي وذي استراتيجية واضحة والذي سرعان ما سيطرت عليه قوى إسلامية بعد تحييد وإقصاء لعناصر كانت فاعلة فيه، وكذلك خلفه (الائتلاف الوطني) الذي ولد من رحم سابقه ولم يقدم شيئا يذكر على المستوى التظيمي أو السياسي، وتم تهميشه بتشكيل الهيئة العليا للمفاوضات التي بدورها لم تحرز أي تقدم في مفاوضات مع موفدي الأمم المتحدة والنظام. بل أن هذا الفشل كان يدفع بالموفدين على الاستقالة الواحد تلو الآخر، حتى وصل الأمر إلى إقصاء السوريين نظاماً ومعارضة من مباحثات الملف السوري، التي تقتصر اليوم على الدول المشاركة في الحرب السورية تتزعمها روسيا، وكل هذه المحادثات ليس لإيجاد حل للمأساة السورية بل لحفظ وتحديد مصالح كل دولة في الغنيمة السورية.
أما الفصائل المسلحة التي كانت قد رهنت وجودها بدعم خارجي فقد سلمت أسلحتها وانسحبت من المناطق التي كانت تسيطر عليها مع أول انعطاف سياسي من داعميها والتخلي عنها. واطمأنت إلى وعود روسيا وسياسة مناطق خفض التصعيد، وحشرت نفسها في منطقة إدلب المحاصرة لتستفرد بها كل الميليشيات الطائفية والعرقية وقوات النظام وروسيا التي دمرتها وهجرت أهلها، ودفعت تركيا للتدخل عسكرياً لحماية المربع الأخير من الأراضي المحررة، لتكون آخر فصل من فصول المأساة السورية وليس الأخير.

 

الكاتب:رياض معسعس – المصدر:القدس العربي

 

“هذا المقال يعبّر عن رأي كاتبه/كاتبته ولا يعبّر بالضرورة عن رأي المرصد السوري”