54 شهرا على التدخل الروسي في سوريا: الاتفاقات “عرض مستمر” لبسط يد “النظام السوري”.. وهدوء حذر تشوبه خروقات متقطعة.. و”موسكو” تلقي بالمسؤولية على “أنقرة”

38

المرصد السوري لحقوق الإنسان

مارس/آذار 2020

في وقت يشهد فيه العالم وباءًا قد ينتج عنه تحولات شاملة في مسار العلاقات الدولية إلى الأبد، تواصل روسيا جرائمها للشهر الثالث والخمسين على التوالي منذ دخولها على مسرح الأزمة السورية، حيث وجدت روسيا في انشغال العالم بالتركيز على فيروس كورونا، فرصة سانحة لها لفرض واقع جديد على الأرض في سوريا من خلال اتفاقات مع تركيا أفضت إلى إحكام سيطرة النظام على ما يزيد من 300 منطقة وقرية وبلدة كانت قوات النظام قد سيطرت عليها خلال شهري يناير وفبراير، لكنها أحكمت سيطرتها وفرضت الأمر الواقع بعد الاتفاق بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب أردوغان في بدايات الشهر الجاري. وعلى الرغم توقف العمليات العسكرية وفقا للاتفاق الروسي التركي، فإن الوضع في الداخل السوري لم يشهد تحسنا مع استمرار تركيا في نشر قواتها وإرسال تعزيزاتها العسكرية في منطقة خفض التصعيد.

في الثلاثين من كل شهر، تحل ذكرى التدخل الروسي في الأزمة السورية الذي بدأ في الثلاثين من سبتمبر/أيلول عام 2015، حين منح مجلس الاتحاد الروسي تفويضا للرئيس الروسي فلاديمير بوتين للانخراط العسكري في سوريا، حيث أعلن “بوتين” وقتها أن التدخل الروسي سيقتصر على الضربات الجوية من أجل هزيمة تنظيم “الدولة الإسلامية” والمتطرفين في “الحرب الشرعية التي يخوضها جيش “النظام السوري” ضد تلك الجماعات، بطلب من رئيس النظام بشار الأسد”. وبدأت القوات الروسية على الفور بشن ضربات جوية على مواقع تابعة لتنظيم “الدولة الإسلامية” وفقا لما أعلنته وزارة الدفاع الروسية، لتنطلق بعدها سلسلة من الضربات والغارات والمساعدات العسكرية والسياسية لنظام “الأسد”، أفضت إلى استعادة النظام السوري السيطرة على حوالي 71.7% من إجمالي الأراضي السورية بعد أن كان يسيطر على أجزاء ضئيلة جدا من الأراضي السورية. ومع اكتمال 54 شهرا على التدخل الروسي في سوريا، يواصل المرصد السوري لحقوق الإنسان توثيقه ورصده لتداعيات التدخلات الروسية وتطورات المشهدين السياسي والعسكري في الأراضي السورية، حيث أفضى التدخل الروسي سياسيا وعسكريا إلى استعادة النظام السيطرة على نحو 72.8% من إجمالي الأراضي السورية بعد أن كان يسيطر فقط على نسبة لا تتجاوز 20%.

وعلى الرغم من الآمال التي علقها البعض على الاتفاق الروسي التركي والاتفاق على تسيير دوريات مشتركة بين الجانبين في منطقة إدلب شمال غرب سوريا، فإن وزارة الدفاع الروسية أعلنت في الخامس عشر من مارس/آذار الجاري، اختصار مسار الدورية المشتركة الأولى مع القوات التركية بسبب ما وصفته بـ”استفزاز تشكيلات إرهابية”، وسط تأكيدات على أنه جرى منح تركيا وقتا إضافيا لاتخاذ إجراءات خاصة لـ”تحييد التنظيمات الإرهابية وضمان أمن الدوريات المشتركة على طريق M4″.

ضربات عسكرية ودوريات وإشراف عسكري.. “موسكو” ترسخ قدمها في سوريا.. والحصيلة: آلاف الضحايا المدنيين

شهد الشهر الماضي هدوءًا نوعيا في العمليات العسكرية على الرغم من بعض الخروقات من وقت إلى آخر لاتفاق التهدئة ووقف إطلاق النار الذي بدأ في الخامس من شهر آذار الجاري، إلا أن الطائرات الروسية قتلت خلال الأيام الخمسة الأولى من الشهر 27 مدنياً بينهم طفل و6 مواطنات، بالإضافة لقتلها نحو 74 مقاتل من الفصائل والجهاديين.

ولم تتوقف آلة القتل الروسية التي انطلقت في سوريا عند حد الغارات الجوية ودعم النظام بالأساليب العسكرية التقليدية، بل لجأت إلى استخدام وسائل غير تقليدية محرمة دولية، حيث رصد “المرصد السوري” استخدام الطائرات الروسية مادة “ثراميت Thermite”، والتي تتألف من بودرة الألومنيوم وأكسيد الحديد، وتتسبب في حروق لكونها تواصل اشتعالها لنحو 180 ثانية. ووفقا لما رصده “المرصد السوري”، فإن “القنابل الروسية تحمل تلك المادة داخل القنابل التي استخدمتها الطائرات الروسية خلال الأسابيع الأخيرة في قصف الأراضي السورية، وهي قنابل عنقودية حارقة من نوع (RBK-500 ZAB 2.5 SM) تزن نحو 500 كيلوغرام، يتم إلقائها من الطائرات العسكرية، وتحمل قنابل صغيرة الحجم مضادة للأفراد والآليات من نوع (AO 2.5 RTM) يصل عددها ما بين 50-110 قنبلة محشوة بمادة Thermite، التي تتشظى منها عند استخدامها في القصف، بحيث يبلغ مدى القنبلة المضادة للأفراد والآليات من 20-30 متر”.

وفي ظل التوترات التي شهدتها منطقة شمال غرب سوريا خلال مطلع الشهر الجاري، استغلت روسيا والنظام الأوضاع لفرض تسوية جديدة على مدينة الصنمين، حيث علم المرصد السوري لحقوق الإنسان في الثاني من مارس، أن 26 شخصا من مدينة الصنمين ورافضي التسوية الجديدة مع قوات النظام بوساطة روسية، تم تهجيرهم إلى شمال غرب سوريا، ضمن عملية تسوية أوضاع الراغبين بالبقاء.

التعاون مع تركيا.. قرارات واتفاقات أستانا في مهب الريح

شهد الشهر الماضي أيضا تصعيدا في التوترات بين تركيا وروسيا، على خلفية الهجوم الواسع الذي تشنه قوات النظام على إدلب وحلب بدعم من روسيا على الرغم من الضمانات التي تعهدت بها روسيا ضمن اتفاقات أستانا وسوتشي، إلا أن تلك التوترات كانت واضحة في القصف الذي تعرضت له قاعدة “حميميم” التي تستضيف القوات الروسية، حيث تعرضت في 20 فبراير إلى إطلاق 4 صواريخ من مناطق المعارضة على القاعدة، وبحسب مصادر موثوقة، فإن “تلك هي المرة الأولى التي يتم استهداف حميميم من هذه البقعة الجغرافية، أي أن هناك رسالة واضحة من تركيا لروسيا والنظام بأن تركيا قادرة على استهداف مناطق النظام والساحل السوري”. وأشارت مصادر “المرصد السوري” إلى أن الصواريخ تم إسقاطها من قبل الدفاعات الجوية وسقطت في الأراضي الزراعية بريف جبلة. وتابعت المصادر: “بعد هذا الاستهداف كان هناك قصف بالمدفعية التركية على مناطق تواجد قوات النظام في سلمى وريف اللاذقية الشمالي الشرقي، وبعدها حلقت الطائرات الروسية وقصفت ذات المنطقة التي انطلقت منها الصواريخ وعدة مناطق بإدلب، كما كان هناك قصفا متبادلا بين القوات التركية وقوات النظام التي استهدفت محيط نقطة اشتبرق. كما أن القوات التركية قصفت مناطق قوات النظام في سراقب”.

وفي الرابع من فبراير، علم المرصد السوري لحقوق الإنسان أن وفدا عسكريا روسيا توجه صباح اليوم إلى منطقة “علوكة” لتفقد مشروع المياه الذي يغذي محافظة الحسكة بالمياه، إلا إن القوات التركية منعتهم من الدخول إلى هناك وسط أنباء عن إطلاق القوات التركية الرصاص في الهواء لإجبار الروس على التراجع، في إشارة إلى الخلافات المتصاعدة بين الجانبين الروسي والتركي، والتي بدأت في الظهور إلى العلن مع المحاولات المتكررة لاستهداف قاعدة حميميم الروسية. وقالت مصادر موثوقة إن الوفد الروسي بعد أن عاد إلى منطقته على جبهة “أبو راسين” (زركان) أزال كافة الأعلام الروسية التي كانت على الجبهة إلى جانب أعلام قوات النظام على نقاط انتشار قوات النظام في المنطقة الممتدة من كسرة إلى حدود تل تمر.

شمال سوريا.. هدوء حذر بعد مناكفات وتوترات مكتومة مع القوات الأمريكية

منذ لحظة انطلاق العملية العسكرية التركية في الشمال السوري في 9 أكتوبر/تشرين الأول، تقدمت القوات التركية والفصائل الموالية لها بغطاء جوي وبري مكثف في إجمالي مساحة تقدر بـ4875 كم2 (9.2% من إجمالي مساحة المناطق التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية)، أي ما يزيد على ربع مساحة لبنان. وفي الوقت نفسه، دخلت قوات النظام بموجب اتفاق بين “قسد” و”النظام” بوساطة روسية، إلى منطقة تقدر مساحتها بـ18821 كم2 (35.6% من إجمالي مساحة سيطرة قوات سوريا الديمقراطية)، ما يعني أن قوات سوريا الديمقراطية فقدت السيطرة على 23641 كم2، بعد أن كانت تسيطر على مساحة قدرها 52916 كم2 (28.6% من إجمالي مساحة سوريا) قبل انطلاق العملية العسكرية “نبع السلام”، ما يعني أن “قسد” لم تعد تسيطر سوى على 15.7% من مساحة سوريا.

وكان قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالانسحاب من شمال سوريا في 6 أكتوبر/تشرين الأول، إيذانا ببدء العملية العسكرية التركية وضوء أخضر لإعادة ترتيب خريطة التحالفات والنفوذ في المنطقة بالكامل، حيث أدى الانسحاب الأمريكي إلى لجوء قوات سوريا الديمقراطية إلى روسيا و”النظام” لنشر القوات النظامية على الحدود مع تركيا في مقابل انسحاب قواتها من تلك المنطقة، ومع انسحابات قوات سوريا الديمقراطية المتتالية وفقاً للاتفاق الروسي–التركي الذي جرى التوصل إليه في “سوتشي” بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب أردوغان، بدأت معالم السيطرة تتضح يوماً بعد يوم، حيث وحتى اللحظة باتت المنطقة الممتدة من القامشلي إلى عين ديوار تحت النفوذ الأمريكي، بينما المنطقة الممتدة من القامشلي إلى رأس العين (سري كانييه) ومن تل أبيض إلى عين العرب (كوباني) تحت النفوذ الروسي، بينما المنطقة الممتدة من رأس العين إلى تل أبيض تخضع للنفوذ التركي والفصائل الموالية لها، في الوقت الذي تشهد فيه محاور بمنطقة “أبو راسين” وريف “تل تمر” الواصل إلى رأس العين اشتباكات متجددة بين “قسد” والفصائل الموالية لـ”أنقرة”، حالها كحال المنطقة الواقعة بين عين عيسى وتل أبيض.

ووفقا لما رصده “المرصد السوري” على مدار الشهر الماضي، فقد شهدت منطقة شمال شرق سوريا هدوءًا حذرا بعد أشهر من التوترات والمناكفات بين القوات الروسية والأمريكية، حيث استقدمت لقوات الروسية منظومات صواريخ دفاع جوي متطورة وحديثة إلى مطار القامشلي أقصى شمال شرق سوريا. ويأتي ذلك في ظل التوتر المتصاعد بين القوات الروسية ونظيرتها الأمريكية ضمن منطقة شمال شرق سوريا، حيث كان “المرصد السوري” قد رصد توتراً متواصلاً بين القوات الأمريكية ونظيرتها الروسية في منطقة شمال شرق سوريا، في إطار محاولة كل طرف بسط نفوذه على المنطقة، لا سيما أوتوستراد الحسكة–حلب الاستراتيجي. وبحسب ما رصده “المرصد السوري”، فإن تلك التوترات تصاعدت في الآونة الأخيرة، حيث باتت المنطقة تشهد مشاحنات يومية بين الجانبين، بالإضافة لعرقلة القوات الأمريكية مرور آليات روسية من مناطق عدة.

وخلال الأشهر الماضية، رصدت مصادر “المرصد السوري” انتشار القوات الأمريكية على مداخل ومخارج بلدة تل تمر الاستراتيجية التي تعد حلقة الوصل بين الحسكة–القامشلي–حلب، بالإضافة لانتشارها عند مدخل مدينة أبو رأسين (زركان) ومفرق قرية “غيبش”، فضلاً عن تسييرها دوريات مكثفة على أوتوستراد حلب–الحسكة المعروف بـM4، في محاولة منها لتحجيم الدور الروسي ومنع القوات الروسية من استخدام الطريق سوى باتجاه المناطق الحدودية مع تركيا. ورصد “المرصد السوري”، في 20 يناير، اعتراض دورية أمريكية لدورية روسية في قرية مصطفاوية التابعة لمنطقة المالكية (ديريك) بريف الحسكة، لمنعها من الوصول إلى معبر سيمالكا الحدودي، حيث ساد التوتر بين الطرفين. وفي 18 يناير، اعترضت القوات الأمريكية طريق دورية روسية بالقرب من قرية تل فخار أثناء توجه الأخيرة إلى ريف مدينة المالكية (ديريك)، إلى أن تدخلت قوات سوريا الديمقراطية لفض الاشتباك، وبعدها تابعت لدورية الروسية طريقها إلى ريف المالكية بينما توجهت الدورية الأمريكية إلى قاعدة “رميلان”. كما رصد “المرصد السوري” في 14 يناير/كانون الثاني، اعتراض إحدى الدوريات الأمريكية دورية أخرى روسية من المرور عند مفرق حطين على الطريق الواصل بين مدينتي الحسكة والقامشلي الذي يؤدي إلى الطريق الدولي، ما أدى لوقوع مشادات كلامية بين الطرفين انتهت بعد عودة الدورية الروسية أدراجها ومنعها المسير على الطريق الدولي M4.

تمر الأشهر ولا يزال الشعب السوري يعاني ويلات التدخل الروسي الذي يبدو وكأنه انتقام ضد السوريين لخروجهم على النظام الذي ارتكب الويلات بحق شعبه، وفي وقت تتغير فيه خريطة التحالفات وتوازنات القوى، باتت روسيا الرابح الأكبر في سلسلة الفوضى بعد أن نجحت في استعادة سيطرة “النظام” على نحو ثُلُثي البلاد بعد أن كان “النظام” فقد السيطرة على أغلب أراضيها، فقد اتخذت “موسكو” ذريعة “الحرب على الإرهاب” لارتكاب مجازر بحق المدنيين، ورعت اتفاقات ما لبثت أن تخلت فيها عن ضماناتها، فكانت قذائفها وصواريخها مغموسة بدماء السوريين رغم محاولات تبني دور الوسيط السياسي القادر على التعامل مع جميع أطراف النزاع.

ومع التبدلات المستمرة في موازين القوى واستعادة قوات النظام السيطرة على مساحات واسعة من سوريا، فإن المرصد السوري لحقوق الإنسان يجدد مناشداته للمجتمع الدولي للضغط على روسيا لوقف عدوانها على المدنيين السوريين، إضافة إلى الضغط من أجل التوصل لحل سياسي ينهي الأزمة السورية التي دخلت عامها العاشر على التوالي، دون حل يلوح في الأفق لوقف آلة القتل التي انطلقت لتسفك دماء آلاف السوريين وتشرد الملايين غيرهم داخليا وخارجيا.

وعلى ضوء ما رصده “المرصد السوري” وفي ظل الإعلان الروسي الرسمي والتصريحات العلنية التي تؤكد أن التدخل الروسي في سوريا إنما جاء لمكافحة الإرهاب، فإن المرصد السوري لحقوق الإنسان يطالب الجانب الروسي بتفسير أسباب تغاضيه عن التدخل عسكريا في منطقة البادية السورية التي يتواجد فيها تنظيم “الدولة الإسلامية” وخلايا على مساحة نحو 4000 كم2 (1.8%) من إجمالي الأراضي السورية، وهي المنطقة الممتدة من جبل أبورجمين في شمال شرق تدمر وصولا إلى بادية دير الزور وريفها الغربي، إضافة إلى تواجد التنظيم في بادية السخنة وفي شمال الحدود الإدارية لمحافظة السويداء، حيث يتواجد التنظيم وعناصره في تلك المنطقة دون أي تحرك أو استجابة من روسيا التي تدعي محاربة الإرهاب، ما يعني أن الهدف الحقيقي للتدخل الروسي ليس مكافحة الإرهاب وإنما قتل وتهجير المدنيين وتدمير منازلهم وممتلكاتهم، من أجل مساعدة “النظام” على الخروج منتصرا على أنقاض سوريا والمدنيين.