من الأسباب التي دفعت بالحزب الليبرالي الحاكم في بريطانيا إلى إزاحة رئيس الحكومة هربرت آسكويث عام 1916 وتعيين ديفيد لويد جورج مكانه أن الطبقة السياسية أدركت أن آسكويث لم يكن رجل المرحلة. فقد دخلت الحرب العالمية الأولى آنذاك عامها الثالث، ولكن آسكويث لم يكن قادرا لا ذهنيا ولا وجدانيا على التأقلم مع الوضع وعلى قيادة الحرب. وقد اعترف هو نفسه، بعد ذلك، بأنه لم يكن مهيئا لهذا الزمن الجديد. كان مثل الغريب، ولكن غربته لم تكن غربة من هو في غير وطنه بل غربة من هو في غير زمنه. كان التناقض حادا بين زمن الحرب العظمى الشاملة المتمثلة، لأول مرة في التاريخ الإنساني، في إنتاج الموت على نطاق صناعي مكثف وبين هذا الرجل المتفكر المتدبر، رجل السلم والعلم والتبريز في الكلاسيكيات الإغريقية واللاتينية. كانت غربته ناجمة عن وقوعه في الزمن الخطأ. والوقوع في الزمن الخطأ ينتهي بالمرء حتما إلى منافاة روح العصر، أي أنه يلقي به حتما في وهدة «الخطأ الزمني» الذي يسميه الغربيون «أناكرونيزم»، والذي لا يبعد كثيرا عن حالة «الأوف سايد» التي تخاتل لاعب كرة القدم. وإذا كان وجه المقارنة الأبسط بين آسكويث وباراك أوباما، بعد مائة عام بالضبط، هو أن كلا منهما سياسي ذو ثقافة وتكوين أكاديمي، فإن وجه المقارنة الأعمق هو أن أوباما قد وقع مثل آسكويث في الزمن الخطأ الذي يلقي بالمرء حتما في الخطأ الزمني. ذلك أن ما يعرف بـ»عقيدة أوباما»، التي يمكن اختصارها في «صفر تدخلات في الخارج»(تماما مثلما كانت تركيا تحاول الأخذ بسياسة «صفر مشاكل مع الجيران»)، هي عقيدة كان يمكن أن تكون حميدة لو أنها أتت في زمن آخر، أي في زمن لا يستدعي حزما وحسما وحربا. كان يمكن لهذه العقيدة أن تكون حميدة لو أنها أتت مثلا أوائل القرن، بحيث ربما تكون حالت دون تحقيق أمنية المحافظين الجدد بغزو العراق وتفتيته وبحيث تكون حالت دون تحول إيران إلى اللاعب الوحيد في المنطقة بعد إسرائيل. وكان يمكن لهذه العقيدة أن تكون مفيدة لو أنها أتت مثلا فور انهيار الاتحاد السوفييتي، بحيث ربما تكون حالت دون ذلك التوسع المفرط الذي بلغ به حلف شمال الأطلسي حدود روسيا فبث في الروس، شعبا وحاكما، بذور الضغائن وأثار فيهم كوامن الرغبة في الانتقام. ولكن رغم أن أوباما أوقع نفسه في «أوف سايد» التاريخ، ورغم أنه أوقع بلاده، التي لا يمكن لبقية الغرب أن يتحرك عسكريا بدونها، في الخطأ الزمني الفاضح أخلاقيا والقاتل سياسيا، فإنه قد سادت منذ أعوام في برامج النقاش والحوار على الإذاعات والتلفزات، سواء في بريطانيا أو فرنسا، نظرية تتكرر باستمرار دون أن تجد من يرد عليها، بل إن مجرد التعبير عنها يسكت الخصم وينهي النقاش. ومفاد النظرية أن انتقاد أمريكا على سلبية موقفها من التراجيديا السورية انتقاد عديم المعنى لأن المغرضين كانوا ينتقدون أمريكا عندما كانت تتدخل في النزاعات الخارجية، وها هم ينتقدونها اليوم بعد أن صارت ممتنعة عن التدخل. فلا أحد ينصف هذه المسكينة: ملعونة إذا فعلت، وملعونة إذا لم تفعل. يقول أحدهم للمرة الألف: «حملتم على أمريكا عندما تدخلت في العراق وأفغانستان، والآن تحملون عليها لأنها استخلصت الدروس الواجبة وقررت التوقف عن دس أنفها في حروب الآخرين». والعجيب أني لم أسمع ولو مرة واحدة متحدثا يوضح للمؤمنين بهذه النظرية أن طرح القضية تحت عنوان «التدخل» طرح سطحي وخاطىء لأنه يؤدي إلى إقامة تعادل سياسي، بل وتكافؤ أخلاقي، بين ما وقع من غزو أمريكي لا مبرر له للعراق وأفغانستان من جهة وبين ما لم يقع من نجدة أمريكية مبررة، بل واجبة، للمدنيين السوريين الذين لم يتمكنوا من الفرار من البلاد التي ثار شعبها على أحد أبشع أنظمة الحكم في التاريخ المعاصر. إذ يبدو أن الجمهور الغربي نسي بسرعة مدهشة أن شعبي العراق وأفغانستان لم يطلبا من أمريكا النجدة أو المساعدة، وأنه لم تكن في البلدين قبل الغزو ثورة شعبية في حاجة للدعم، وإنما كان قرار الغزو «حربا اختيارية»على أساس «ذرائع بيروقراطية»، كما اعترف بذلك نائب وزير الدفاع بول وولفوييتز. كما يبدو، من كثرة التكرار، أن أحدا لم تعد تؤذيه سخافة المشهد: أن رئيس أقوى دولة في العالم قد أقنع نفسه بأن انتحاله صفة رئيس لجنة الصليب الأحمر هو أعقل طريقة لمواجهة التراجيديا السورية.