اصطفافات المعارضة السياسية السورية

48

أعلنت الخارجية الروسية نهاية العام الماضي عزمها إقامة منتدى تشاوري بين المعارضة السورية والنظام، وبغض النظر عن أسباب هذا المنتدى التي ليست سوى محاولة فاضحة لتعويم النظام، فإنه استطاع تحريك المياه السياسية السورية الراكدة منذ منتصف فبراير/شباط العام الماضي، تاريخ انهيار مؤتمر “جنيف2”.

وبينما كانت التحضيرات الروسية تجري على قدم وساق لعقد منتدى موسكو في 27 يناير/كانون الثاني الماضي، عقد في القاهرة قبله بأيام اجتماع للمعارضة السورية، بدت هيئة التنسيق اللاعب الأكبر فيه.

اجتماع القاهرة1
بدأ اجتماع القاهرة في 22 يناير/ كانون الثاني الماضي بحضور أكثر من 30 شخصية تمثل كافة أطياف المعارضة بما فيها عدة أعضاء من الائتلاف الوطني، مع إقصاء واضح من قبل الخارجية المصرية لتيار الإخوان المسلمين ومجموعة إعلان دمشق والمجلس الوطني الكردي، وشخصيات سياسية ذات أهمية.انتهى الاجتماع بالتوافق على وثيقة سميت “نداء من أجل سوريا” تضمنت عشرة بنود، أهمها: الانتقال إلى نظام ديمقراطي ودولة مدنية ذات سيادة عبر تسوية تاريخية تجسد طموحات الشعب السوري وثورته وتبنى على أساس “بيان جنيف”، والتزام جميع الأطراف بمبدأ حصر حمل السلاح في الدولة، الأمر الذي يتطلب إعادة هيكلة المؤسسات العسكرية والأمنية، ودمج القوى المعارضة العسكرية المشاركة في الحل السياسي.

عكست الوثيقة التفاهم الكبير بين القاهرة وهيئة التنسيق:

أولا: استبعاد الإخوان المسلمين، وهو مطلب مصري كما هو مطلب هيئة التنسيق التي طالما حذرت من هيمنة الإخوان على الائتلاف الوطني.

ثانيا: استبعاد البحث في مصير الأسد، فالطرفان يتفقان على حل سياسي يبدأ بمرحلة انتقالية يكون الأسد فيها شريكا.

ثالثا: اعتماد وثيقة “جنيف1” في صيغتها المبهمة للحل السياسي، واستبعاد مقررات “جنيف2” لا سيما الوثيقة التي قدمها الائتلاف.

رابعا: رغبة القاهرة والهيئة في إضعاف الائتلاف الوطني، أو على الأقل منعه من الهيمنة على تمثيل المعارضة في المحافل الدولية، وبالتالي إضعاف الدور التركي القطري.

وثيقة الائتلاف
سرعان ما رد الائتلاف على اجتماع القاهرة بإقراره في 15 فبراير/شباط الماضي وثيقة المبادئ الأساسية للتسوية السياسية في سوريا.

أكدت الوثيقة في البداية على استئناف مفاوضات التسوية السياسية برعاية الأمم المتحدة انطلاقا مما تم التوصل إليه في مؤتمر “جنيف2″، واستنادا إلى قرارات مجلس الأمن ذات الصلة، وتنفيذا لبيان مجموعة العمل من أجل سوريا المعروف ببيان جنيف.

وحددت الوثيقة أن هدف المفاوضات الأساسي هو تنفيذ بيان جنيف وفقا لأحكام المادتين 16 و17 من قرار مجلس الأمن رقم 2118 الصادر عام 2013 بالموافقة المتبادلة، بدءا بتشكيل “هيئة حكم انتقالية” تمارس كامل السلطات والصلاحيات التنفيذية، بما فيها سلطات وصلاحيات رئيس الجمهورية على وزارات وهيئات ومؤسسات الدولة، ومن ضمنها المؤسستان العسكرية والأمنية.

كما أكدت الوثيقة أن غاية العملية السياسية هي تغيير النظام الحالي بشكل جذري وشامل بما في ذلك الرئيس ورموزه وأجهزته الأمنية، وهكذا أعادت الوثيقة تصويب ما سمته بالانحراف الذي عبرت عنه وثيقة “نداء من أجل سوريا” التي لم تلحظ مصير الأسد في المرحلة الانتقالية.

اجتماع دمشق
بينما كانت القاهرة تسعى إلى تعويم هيئة التنسيق، كانت موسكو ودمشق تسعيان إلى تعويم جزء من معارضة الداخل التي اجتمعت في 22 فبراير/شباط الماضي بدمشق وضمت (حزب الشعب، حزب التضامن، حزب التنمية، حزب الشباب الوطني للعدالة والتنمية، التجمع الأهلي الديمقراطي للكرد السوريين، تيار سلام ومجد سوريا، تيار بناء الدولة).

تمخض الاجتماع عن ورقة سميت باسم “مبادئ دمشق للحل السياسي، توافقات الحد الأدنى” تدعو إلى اتخاذ موقف مسؤول عبر الانخراط في مسار سياسي تفاوضي يحمل تنازلات مؤلمة من الجميع، برعاية الدول المعنية بالأزمة السورية، ويفضي إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية ائتلافية تشارك فيها السلطة والمعارضة، تعمل على تنفيذ الحل السياسي عبر آليات متوافق عليها وأهمها الحوار الوطني.

وقدمت الورقة ما سمته بالثوابت الوطنية التي تتضمن وحدة البلاد والحفاظ على سيادتها، والحفاظ على مؤسسات الدولة وفي مقدمها المؤسسة العسكرية، ومحاربة الإرهاب بكل أشكاله.

لم تقترب الوثيقة نهائيا من مصير الأسد لا على مستوى المرحلة الانتقالية ولا على مستوى المرحلة التي تليها، كما لم تتطرق لطبيعة المرحلة الانتقالية وحدود الصلاحيات الموكلة للحكومة الانتقالية، وخصوصا المؤسستين العسكرية والأمنية، هل هما خاضعتان للحكومة أم للرئيس على اعتبار أن هاتين المؤسستين تجسدان معنى السيادة، والأهم من ذلك أن الوثيقة لم تتطرق إلى اتفاق جنيف نهائيا.

وهكذا جسدت الوثائق الثلاث رؤية كل طرف للحل ورؤية الداعمين لهم على مستوى الدول، غير أن هذه الوثائق لا ترقى إلى مستوى الحل السياسي الواقعي، لافتقاد كل واحدة منها للإجماع الإقليمي والدولي، فوثيقة دمشق لا تقبل بها سوى روسيا وإيران وبعض الدول العربية، في حين تعبر وثيقة الائتلاف عن الرؤية التركية ولا ترقى إلى مستوى الموقف الأوروبي الأميركي الذي بدت معالم تراجعه تظهر منذ أشهر، أما وثيقة القاهرة فهي بمثابة المنزلة بين المنزلتين، لكن فيها من الغموض ما يكفي لجعلها ورقة ضعيفة، لا ترقى إلى مستوى الحل الفعلي.

لقاء باريس

جاء لقاء باريس بين أعضاء في هيئة التنسيق وأعضاء في الائتلاف الوطني في 22 فبراير/شباط الماضي بباريس ليفجر أزمة مؤقتة بين الائتلاف وهيئة التنسيق، لكنه بالمقابل أنهى أزمة دامت أربع سنوات بين الطرفين.

جمع اللقاء خلف الداهود وأحمد العسراوي وزكي الهويدي وصفوان عكاش من الهيئة مع أحمد رمضان وعبد الأحد أصطيفو وهادي البحرة وهشام مروة من الائتلاف الوطني، وتحديدا من الإخوان المسلمين وإعلان دمشق، وهما القوتان اللتان رفضت الحكومة المصرية مشاركتهما في اجتماع القاهرة.

فجر هذا اللقاء أزمة داخل الهيئة واعتبر بمثابة طعن للجهود المبذولة لإنجاح مؤتمر القاهرة الثاني لأن المجتمعين في باريس أعلنوا في مؤتمر صحفي أن الأسد خارج أية مرحلة انتقالية، في حين اعتبر آخرون من داخل الهيئة أنه فرصة للتقارب مع الائتلاف.

وبعد نقاش عاصف نشر المكتب التنفيذي للهيئة في 28 فبراير/شباط الماضي على موقعه بيانا أكد فيه أن لقاء باريس لا يتعارض مع المساعي التي تقوم بها لجنة التواصل لعقد لقاء موسع للمعارضة السورية في القاهرة، غير أن هذا المخرج بدا مرفوضا من قبل داعمي القاهرة (مناع) الذي شكل تيارا جديدا (قمح).

وإذا كانت باريس سببا للفرقة والخلاف، فقد كانت أيضا سببا للتلاقي، ففي الخامس من مارس/آذار الماضي، أعلن رئيس الائتلاف الوطني السوري خالد خوجة خلال مؤتمر صحفي مشترك مع الرئيس الفرنسي فرانسوا أولاند في باريس عدم اشتراط الائتلاف تنحي الأسد لبدء المفاوضات السياسية مع النظام.

شكل هذا الإعلان تحولا مهما في موقف الائتلاف وبدا قريبا من موقف هيئة التنسيق التي تعتبر قضية الأسد مرتبطة بنتائج المفاوضات، وإن كان الطرفان متفقين على أن الصيغة النهائية للحل يجب أن تتم عبر تأسيس نظام ديمقراطي لا مكان فيه للنظام ورموزه الأساسيين.

وتمثل هذه الصيغة حلا وسطا بين الائتلاف وهيئة التنسيق، إذ يشكل القبول بالمفاوضات دون شرط استبعاد الأسد تنازلا من الائتلاف لصالح الهيئة، في حين يشكل إعطاء هيئة الحكم الانتقالية الصلاحيات الرئيسية تنازلا من الهيئة لصالح الائتلاف.

اجتماع القاهرة2
من الواضح رغبة الائتلاف وهيئة التنسيق في التوصل إلى اتفاق من شأنه أن يعيد ترتيب المعارضة، لكن من الواضح أيضا أن هذا التقارب كان نتيجة جهود دولية مكثفة عبرت عنها باريس صراحة، أولا من خلال احتضانها لقاء وفدي الائتلاف والهيئة، والثاني تصريحات الخوجة في باريس حول المفاوضات ومصير الأسد، وثالثا البيان الختامي الفرنسي لهذا الاجتماع الذي ركز على المفاوضات ولم يقترب من مسألة الأسد أو إسقاط النظام.

“إذا كان الظرف الدولي بداية العام الماضي لم يكن يسمح بتمثيل المعارضة السورية إلا للائتلاف، فإن الظرف الإقليمي والدولي الحالي وإن كان يسمح بدخول هيئة التنسيق إلى جانب الائتلاف، فإنه لا يسمح في المقابل باستبعاد الائتلاف “

والواقع أن هذا الجهد الذي قامت به باريس نيابة عن مجموعة أصدقاء سوريا، هو محاولة لتقريب الهوة بين أنقرة والدوحة من جهة والقاهرة من جهة ثانية، لقطع الطريق على موسكو وجهودها لتشكيل معارضة لينة تقبل ما يقبله النظام السوري، فأقصى ما يمكن أن يقبل به المجتمع الدولي هو بقاء الأسد خلال المرحلة الانتقالية، وهو مطلب كانت موسكو تلح عليه كثيرا، أما ما عدا ذلك فهو خارج المتاح سياسيا على الأقل في هذه المرحلة.

وعلى الرغم من العقبات التي ما زالت قائمة بين الائتلاف وهيئة التنسيق حول مصير الأسد والمرحلة الانتقالية، نظرت جميع أطياف المعارضة السورية إلى اجتماع “القاهرة2” على أنه فرصة لتوافق المعارضات على حل مشترك ينهي الأزمة السورية.

لكن هذه التحركات التي بشرت بأمل توحيد المعارضة السورية سرعان ما انهارت بفعل سياسات القاهرة الحزبية الضيقة التي تمثلت أولا بعدم توجيه الدعوة إلى مؤسسة الائتلاف لحضور الاجتماع، وثانيا رفضها حضور الائتلاف أعمال القمة العربية، في إشارة واضحة إلى عداء القاهرة للائتلاف وداعميه الأتراك والقطريين.

وقد ترتب على هذا الموقف الذي لا يمكن تفسيره إلا بضعف الخبرة السياسية، رفض الائتلاف للمشاركة في اجتماع “القاهرة2″، وهكذا تكون مصر السيسي قد حالت دون لقاء أو إمكانية توحد المعارضة، وفي هذا مصلحة للنظام السوري.

وإذا كان الظرف الدولي بداية العام الماضي لم يكن يسمح بتمثيل المعارضة السورية إلا للائتلاف كما حصل في “جنيف2″، فإن الظرف الإقليمي والدولي الحالي وإن كان يسمح بدخول هيئة التنسيق الساحة العربية والدولية إلى جانب الائتلاف، فإنه لا يسمح في المقابل باستبعاد الائتلاف الذي ما زال يمثل الفصيل الأهم والأقوى على الساحة الدولية. لقد آثرت القاهرة أن تكرس سياسة المحاور في الأزمة السورية، واختلطت لديها مقتضيات السياسة الداخلية مع معطيات ومتطلبات السياسة الخارجية.

المصدر : الجزيرة