التحول الديمقراطي في المجتمعات العربية

هذا الموضوع هو خلاصة ندوة حوارية ساهم فيها كل من السادة :
مروان حبش ، حبيب حداد ، يوسف مكي ، بشار عباس ،أسامة ظريفة

مقدمة
عبر مراحل التاريخ البشري تطورت علاقة الانسان بأخيه الإنسان بحيث بات يتوقف على نوعية هذه العلاقة ما يكفل ترقية وإغناء حياة الفرد والجماعة ماديًا وروحيًا وحمايتها من كل الأخطار والأحداث التي تهددها ٠ وتبعًا لذلك وعلى مر التاريخ تتالت وتطورت صيغة العلاقات وأنظمة الحكم التي تجسدها بدءًا من المجتمع المشاعي إلى مجتمع العبودية والإقطاع إلى المجتمع الرأسمالي الليبرالي إلى نماذج الحكم التي شهدها القرن الماضي ،التي كانت في واقعها أنظمة رأسمالية الدولة ،واتخذت لنفسها طابع الأنظمة الاشتراكية. وفي هذا المسار كانت هناك قضية أساسية تتقدم على كل ما عداها من القضايا ويتوقف عليها استمرار الدول والمجتمعات المتعاقبة وهي قضية الديمقراطية باعتبارها ،وبكل مالها وما عليها ،تمثل هوية النظام الذي كان خلاصة تطور أشكال الحكم حتى وقتنا الحاضر ٠

وليس يستدعي المجال هنا كي نعود إلى العصور القديمة ونستعرض تجارب مختلف الشعوب فيما يتعلق بطبيعة أنظمة الحكم التي عاشتها وتعاقبت عليها، بل إننا نكتفي هنا بالإشارة إلى ان مفاهيم الديمقراطية والدستور أول ما عرفت في أثينا القديمة في القرن السادس قبل الميلاد ،التي تعتبر غالبًا مهد الديمقراطية الحقيقية بطابعها الخاص طبعًا ،وحيث تراوحت أنظمة الحكم فيها من الديمقراطية إلى الأرستقراطية إلى الملكية والديكتاتورية المطلقة ٠ بعدها تأتي روما، ورغم ان الكثير من الموءرخين يصنفها على انها جمهورية غير ديمقراطية إلا ان تاريخها السياسي يوءكد الحفاظ على مفهوم الديمقراطية وتكريسها على مر الزمن ، وقد ألهم النموذج الروماني للحكم العديد من المفكرين السياسيين عبر العصور ٠ كما ان الديمقراطية الحديثة اليوم ترجع إلى النموذج الروماني كمصدر من مصادر التشريع أكثر من النماذج اليونانية القديمة٠

اما في العصور الوسطى فلم تعرف تلك الاشكال من الديمقراطيات الأولية تطورًا يذكر فلم تمتلك دول المدن المسماة بالجمهوريات الايطالية وكذلك المدن السويسرية سوى نظامًا ديمقراطيًا نقابيًا أي إنتخاب أعضاء النقابات ذات الطبيعة الاقتصادية والاجتماعية والدينية لفترة عضوية سنوية ٠ وفيما يتعلق بالفكر السياسي العربي في هذه المرحلة التاريخية فإن أمر الشورى الذي عمل به في مرحلة الخلافة الراشدة لم يكن في واقعه نظامًا يمثل أبسط مقومات المشاركة الشعبية ، وبعد ان تحول الوضع الى ملكية عضوض طوال المراحل المتعاقبة للدولة العربية الإسلامية وحتى نهاية السلطنة العثمانية لم يكن هناك أي تطور حقيقي باتجاه ممارسة الشعوب حياة الحرية والعدالة والمساواة بل ان تلك السلطات والأنظمة المتعاقبة كانت تستغل الدين في اضفاء مشروعية زائفة على وجودها وتسلطها واستمرارها . ، ويمكن لنا ان نتأكد من موضوعية وصحة حكمنا هذا إذا رجعنا إلى ما انتهت إليه التيارات الفكرية الحرة في الحضارة العربية كالمعتزلة او دعوات المفكرين والفلاسفة التنويريين أمثال الكندي والتوحيدي والفارابي وابن رشد وابن خلدون وغيرهم .

وبما أن النظام الديمقراطي ، كما أكدت ذلك دروس التاريخ المتعاقبة ،لا يمكن ان يتأسس الا في مجتمع يتوفر فيه شرطان ذاتيان أساسيان ، أولهما البنية الطبقية الموءهلة ونعني بذلك وجود الطبقة البورجوازية الوسطى في نظام رأسمالي منتج ،وثانيهما مستوى الوعي الشعبي العام أو عقل المجتمع العام ،حسب جون رولز ،الذي يمكن ان يتجلى في افكار ومواقف النخب الفكرية والسياسية في هذا المجتمع ٠ فتطور الفكر مرتبط بتطور بنى المجتمع من ناحية ،كما إنه أي هذا الفكر بدوره يمكن له ان يكون فاعلًا وقائدا لتطور المجتمع من ناحية أخرى ، هكذا تطور الوعي الإنساني منذ المجتمع المشاعي إلى يومنا هذا من طبيعة الفكر الخرافي إلى الاسطوري الى الميتافيزيقي إلى الديني والفلسفي والعلمي .

وفي مطلع العصور الحديثة شهد الفكر الليبرالي تحولًا بإتجاه أنظمة الحكم التي تحظى بموافقة نسبية للشعوب التي تتولى أمورها ونذكر في هذا المجال الثورة الإنكليزية من عام 1642-1649 وما مثلته أفكار كل من توماس هوبز وجون لوك في التحضير والتهيئة لقيامها إلى جان جاك روسو في (العقد الاجتماعي) وغيره من المفكرين والفلاسفة الفرنسيين والدور الذي اضطلعوا به في التمهيد للثورة الفرنسية عام 1789 التي غيرت بشكل عميق مسار التاريخ الحديث ٠ اذ ما من شك في انه كان لهذه الثورة تاثيرات نوعية لاحقة على الصعيد العالمي ، بعد الذي حققته من انجازات مباشرة على الصعيد الوطني، اذ قضت على النظام الملكي وأسست للجمهورية والنظام العلماني وأنهت دور الكنيسة وتحالفها مع النظام الملكي مع إقرار ميثاق حقوق الانسان والمواطن ،بالإضافة الى مجموعة من الحقوق والحريات الأساسية للطبقة العاملة والمتوسطة في الشعب الفرنسي ٠

بدايات مرحلة النهضة في المجتمعات العربية

بدأ العرب يتطلعون إلى التحرر والنهضة ومواكبة مسار التطور العالمي منذ أواسط القرن التاسع عشر . وتصاعدت أهدافهم كما هو معروف من المطالبة بالنظام اللامركزي و تأمين حقوقهم الأساسية في إطار الدولة العثمانية ، إلى مطلب الاستقلال التام عندما لم تجد هذه الحقوق أية استجابة تذكر ٠ وكان التمهيد لتحقيق هذا الهدف يتطلب تدشين مرحلة فعالة من التوعية والتنوير التي اضطلع بها عدد من رموز هذه الأمة ومفكريها نذكر منهم : رفاعة رافع الطهطاوي وخير الدين التونسي وبطرس البستاني وجرجي زيدان وأديب اسحق ومحمد عبده واحمد لطفي السيد وفرح انطون وشبلي الشمال وعلي عبد الرازق وطه حسين ……وغيرهم .

وهكذا وبعد نهاية الحرب العالمية وجد العرب أنفسهم وبخاصة في المشرق أمام واقع جديد وهو تجزئة بلادهم إلى كيانات عديدة ووضعها تحت الانتداب تنفيذًا لإتفاقية سايكس بيكو التي شاركت في وضعها الامبرياليتان الإنكليزية والفرنسية وكذلك روسيا التي انسحبت منها وفضحتها بعد قيام ثورة أكتوبر .

هكذا وجد العرب في المشرق أنفسهم أمام مهمات مصيرية لا بد من التصدي لإنجازها ،وصنع الغد الذي اليه يطمحون ،في عالم ليس فيه مكان الا للأقوياء ٠ وتلخصت هذه المهمات في ثلاث : فكان عليهم أولآ ان يواصلوا كفاحهم لنيل الاستقلال الوطني ،وكان عليهم ثانيًا ان ينجحوا في بناء أنظمة ديمقراطية من خلال إنجاز الخطط التنموية الشاملة ، وكان عليهم ثالثًا ان يوحدوا جهودهم في العمل من أجل تحقيق الأهداف المركزية للأمة وفي مقدمتها تحرير فلسطين و انجاز كل الخطوات الوحدوية أو الاتحادية التي تكفل تكامل طاقاتهم وانسجام مواقفهم على الصعيد الدولي .

غير ان العرب ، مع الأسف ،لم ينجحوا حتى اليوم في إنجاز هذه المهمات التاريخية المذكورة ، بما فيها، مهمة إفشال المخطط الصهيوني ، منذ تحرر أقطارهم من السيطرة الاستعمارية المباشرة أواسط القرن الماضي وحتى اليوم ٠ ذلك ..لان العرب بصورة عامة قد تقاعسوا عن الاضطلاع بما تستدعيه هذه المهام على الصعيدين النظري والعملي . ولعل أهم تلك الأحداث التي عرفتها البشرية على امتداد القرن الماضي وحتى اليوم هي أنها كانت ضحية حربين عالميتين مدمرتين وما استتبع ذلك من مرحلة الحرب الباردة بين القطبين الدولين إلى مرحلة القطب الواحد الذي تمارسه الولايات المتحدة الامريكية ، بعد سقوط ما عرف بالمعسكر الاشتراكي ، وحتى اليوم . وفي مقدمة ماعرفه الوضع الدولي على صعيد حق الأمم في تقرير مصائرها إنشاء عصبة الأمم بعد الحرب العالمية الأولى واستبدالها بهيئة الأمم المتحدة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية التي ظلت في واقعها تحت هيمنة الدول الكبرى التي تتمتع بحق الفيتو في هذه المنظمة تجاه كل القرارات التي لا تتفق ومصالحها . كذلك لابد أن نذكر من تلك الإنجازات الهامة صدور الميثاق العالمي لحقوق الانسان عام 1948 ومن ثم العهدين الدوليين للحقوق الاقتصادية والاجتماعية عام 1964 .

التطور الديمقراطي في المجتمعات العربية : سورية نموذجًا

في دول العالم الثالث بصورة عامة والتي حصلت على استقلالها في أواسط القرن الماضي كانت هناك سمة مشتركة تميز طبيعة الانظمة التي حكمتها ، وهي أن هذه الأنظمة رأت كي تحصن استقلالها وتواصل تطورها أن تنظر إلى المسألة الديمقراطية التي تتميز بها الدول الغربية نظرة سلبية وحتى عدائية ، فقد رات بما فيها فصائل حركة التحرر العربية ،بتأثيرات الفكر السوفييتي، أن الديمقراطية الليبرالية هي وسيلة الإمبريالية العالمية لإدامة سيطرتها غير المباشرة ،عن طريق البورجوازيات المحلية ،على تلك الدول التي استقلت حديثًا. لذا فقد عمدت حركات التحرر الوطني بعد نيل الاستقلال الوطني إلى إعتماد ما سمي بالديمقراطيات الشعبية او الاجتماعية والتي كان الجيش في معظم تلك التجارب هو القوة الفعلية آلتي تمارس السلطة فيها بصورة غير مباشرة . وكانت حصيلة ذلك اي استمرار تلك الأوضاع على هذه الحال هو فشل تلك الأنظمة في تحقيق التنمية المستدامة في مجتمعاتها ومضاعفة الفجوة التي تفصلها عن ركب التطور العالمي . هذا ما عرفته بلادنا منذ استقلالها وحتى اليوم ونعني بذلك سورية على وجه الخصوص ، فلقد عاشت بلادنا مرحلة ديمقراطية مميزة منتصف خمسينات القرن الماضي على الرغم من بعض السلبيات التي شابتها ، ولم يكتب لهذه التجربة الديمقراطية فرصة التطور والازدهار والتكامل وذلك نتيجة سببين رئيسيين هما اولا : ضعف دور وفاعلية الليبرالية الوطنية آنذاك سواء على صعيد الفكر أو العمل ،وثانيهما موقف النخب الفكرية والأحزاب الوطنية واليسارية والسلفية السلبي بل والعدائي تجاه المسألة الديمقراطية . هكذا عرفت بلداننا العربية بداية تجارب ديمقراطية في القرن الماضي كان مآلها الإخفاق سواء في سورية أم في مصر ام في السودان او العراق او الاردن او تونس …

إن تجارب التطور اللا رأسمالي الذي عرفته بعض بلدان العالم الثالث خلال النصف الثاني من القرن الماضي قد انتهت إلى الفشل في بناء أنظمة اشتراكية ديمقراطية وخاصة بعد إنهيار ما عرف بالمعسكر الاشتراكي وتوقف ما كان يقدمها لها من دعم وتأييد. وفشل هذه التجارب قد فتح الآفاق إلى إمكانية الانتقال إلى الديمقراطية عبر نظام رأسمالي انتاجي وطني ،والتخلص من نمط الاقتصاد الريعي الذي لا يسمح بنمو طبقة بورجوازية وطنية وهذا النظام يستدعي قيام تحالف شعبي عريض وهو ما ما يعرف في الأدبيات السياسة بالكتلة التاريخية التي تشمل جميع فئات الشعب ومنظماته المدنية وقواه الوطنية الديمقراطية دون استثناء سوى مجموعات الكومبرادور التي ارتبطت مصالحها بالاقتصاد الطفيلي .

كما ينبغي في هذا النظام الديمقراطي المنشود تجاوز مفهوم الأقلية والأكثرية على أساسي ديني أو مذهبي أو إثني أو ثقافي التي تتعارض مع بناء دولة المواطنة أي الدولة _ الأمة ، حيث الأقلية والأكثرية هنا تتحدد نتيجة الاستفتاءات والانتخابات ، وهي نسب غير دائمة بل تتغير وفق كل دورة انتخابية ، وهذا الأمر هو الذي يفسح في المجال لتحقيق مبدأ التشاركية وتداول الحكم بطريقة سلمية مع المحافظة على فصل اختصاصات كل من السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية والإعلامية

لماذا فشلت انتفاضات ماسمي بالربيع العربي اذن ؟
يمكن هنا إعادة التذكير بتلك الأسباب الرئيسية التي كنا نكررها على امتداد السنوات الماضية :
_ قصور الفكر السياسي العربي ،بصورة عامة ، من حيث نظرته إلى الديمقراطية وبناء الدولة المدنية الحديثة التي لا يمكن ان تكون الا دولة ديمقراطية علمانية تلتزم سياسة الحياد تجاه جميع الأديان والعقائد الدينية ، وتأمين المساواة في الحقوق والواجبات بين جميع السوريين دون اي تمييز .

-تسليط الضوء على مخاطر الفكر السلفي السياسي وموقفه السلبي من الدولة الديمقراطية العلمانية بحجة تأبيد التراث و دعواه ان مستقبل الأمة يتمثل في العودة الى عصرها الذهبي الذي تحقق في الماضي ،

_ الحركات الوطنية والديمقراطية السورية لم تنجح حتى الان في إقامة تجمع جبهوي وطني ،في داخل الوطن ، يجسد الإرادة الشعبية الحرة نحو بناء مجتمع الديمقراطية والعدالة والعصرنة .

_ تشظي الوحدة الوطنية وبروز حركات انفصالية تتعاون مع القوى الاجنبية والمعادية للوحدة الشعبية والجغرافية ورفضت ان تكون جزءا من المشروع الوطني العام ،سواء في سورية أم في غيرها من البلدان العربية.

_ دور الجيش والأجهزة الأمنية التي مارست دور الهراوة في التنكيل بالمواطنين الذين شاركوا في التظاهر والاحتجاجات .

– عملية التطييف والأسلمة التي هيمنت على شعارات ونشاطات تلك الانتفاضة منذ الأشهر الأولى لقيامها .

– محدودية دور الطبقة الوسطى في المجتمع السوري التي هي عماد الاستقرار وقاعدة التحول الديمقراطي والتي أصبح وجودها وكذا فعلها هامشيًا.
– التدويل والتبعية لدول الإقليم وغيرها من الجهات الدولية من قبل بعض القوى والمجموعات التي حاولت ركوب موجة تلك الانتفاضات وادعت لنفسها أحقية ومشروعية تمثيل الشعب السوري ٠

– والخلاصة ان التحول الوطني الديمقراطي هو السبيل الوحيد لإنقاذ بلادنا مما تواجهه اليوم من أخطار جسام باتت تهدد مصيرها وكيانها واللحاق بركب التطور والحداثة العالميين . ولعل أكبر مسؤولية تلقى اليوم على عاتق كل الوطنيين السوريين هي المساهمة الفعالة في تأسيس مرحلة تنوير وتوعية تستهدف الوعي السليم للمعضلات التي يعيشها شعبنا اليوم كما تستهدف التسلح بالبرنامج العملي للخلاص من هذا الواقع المرير . فنحن أحوج ما نكون إلى امتلاك الوعي العلمي من أجل التشخيص السليم للواقع الذي تعيشه مجتمعاتنا العربية واقع التخلف والاستلاب والاغتراب ، ونشوء حركات سياسية جديدة ترث وتستوعب نضالات الحركة الوطنية ، متجاوزة سلبياتها وإخفاقاتها ومتسلحة بالوعي والإرادة والنظرة السديدة لبناء المستقبل المنشود .