التدخل الروسي في سوريا: منطلقاته وآفاقه

44

ليس واضحا بعد ما إذا كان الدخول الروسي على خط الازمة السورية سيساهم في ايجاد حل لها ام سيوسع دائرة الصراع في المنطقة. لا شك ان عدم اعتراض الدول الاخرى خصوصا الولايات المتحدة الأمريكية على ذلك يخفف من احتمالات نشوب ازمة عالمية كبيرة، ولكن بعض الدول الاقليمية غير راض عن ذلك التدخل، ويرى فيه دعما مباشرا لنظام بشار الأسد، وانحيازا واضحا لمحور سياسي بدأت ملامحه تتبلور في الاعوام الاخيرة ويضم كلا من إيران.
هذا الاستقطاب الذي يزداد وضوحا كل يوم توازيه حالة من الاضطراب في المواقف والتحالفات الاقليمية الاخرى. فتصاعد الانتفاضة الفلسطينية وتزايد سقوط الشهداء عامل لم يكن في حسبان الفرقاء الذين يخوضون صراعات محلية واقليمية. فاذا كانت قوى الثورة المضادة قد نجحت في الاعوام الاخيرة في تهميش القضية الفلسطينية وابعادها عن اهتمام الطبقات المثقفة والنخب، فان تصاعد لهيبها في الاسابيع الاخيرة من شأنه ان يؤثر على الاستقطابات والانتماءات التي تبلورت في مرحلة ما بعد الربيع العربي.
تاريخيا يعتبر المحور الشرقي (السوفييتي) مرادفا لمقولات «الثورة» و«التقدم» و«محاربة الرجعية» و«التصدي للامبريالية». كما كان الانتماء للمحور الغربي (الذي تقوده أمريكا وبريطانيا) مرتبطا بالمقولات المضادة لما سبق. فما الذي تغير سواء في طبيعة قوى هذين المحورين ام في مشاعر القوى التقدمية وولاءاتها وتوجهاتها؟ ولماذا اعيدت الحياة لما تبقى من «المحور التقدمي»؟ لا شك ان سقوط نظامي صدام حسين ومعمر القذافي وتغير اتجاه القيادات الفلسطينية بالاضافة لتصدع الاتحاد السوفييتي، ساهم في هذا التحول وادى لصعود ما سمي لاحقا بـ «محور الاعتدال العربي» الذي استطاع «شرعنة» التعامل مع أمريكا والتطبيع مع «اسرائيل»، وساهم في تطويع الشعوب العربية للانظمة التي كانت تعتبر «رجعية» او «عميلة» او «استبدادية».
ثمة حقائق يجدر طرحها في هذا الاطار. اولها ان روسيا اليوم تختلف ايديولوجيا عن الاتحاد السوفييتي السابق. كانت موسكو تعبر عن امرين: الشيوعية وما يستتبعها من شعارات، والصراع مع النظام الراسمالي ممثلا بأمريكا. اما اليوم فقد غاب البعد الايديولوجي وبقي التنافس بين موسكو والغرب. والامر ينطبق على الصين التي اصبحت مستهدفة من أمريكا ليس على اساس ايديولوجي بل بسبب ما تمثله من تحد اقتصادي ونفوذ سياسي وعسكري. وأكدت زيارة الرئيس الصيني لبريطانيا الاسبوع الماضي ان بريطانيا الرأسمالية قادرة على التعايش والتعاون والتقارب مع الصين، التي تعتبر، من الناحية النظرية، النظام الشيوعي الوحيد في العالم. كما ان الموقف الصيني الداعم للتدخل الروسي في سوريا وعدم اثارته بقوة في زيارة لندن، فرض نفسه بقوة المال والنفوذ، وان الغرب يتطلع لتحييده ايديولوجيا والاستفادة منه اقتصاديا. وتبقى منطقة الشرق الاوسط محورا للتنافس بين الشرق والغرب، كما كانت خلال الحرب الباردة. الفرق ان النخب العربية فقدت هويتها التقدمية وتراجعت عن المشاركة في الصراع من اجل التغيير. ولذلك لا توجد اعتراضات حقيقية على التدخلات الأمريكية العسكرية والسياسية في دول العالمين العربي والإسلامي. وشتان ما بين الوضع العربي الحالي وما كان عليه قبل ربع قرن، عندما عمت العواصم العربية موجات احتجاجات واسعة ضد استدعاء القوات الاجنبية من قبل السعودية لاخراج القوات العراقية من الكويت. يومها اضطرت السعودية لجمع اكثر من 400 من علماء الدين (من بينهم فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي) في مكة لاستصدار فتوى تبيح الاستعانة بأمريكا ضد قوات صدام حسين. مع ذلك لم تقتنع الجماهير بذلك، بل ان بعض الانظمة احجم عن دعم تلك الخطوة، ومنها الاردن واليمن والجزائر وليبيا ومنظمة التحرير الفلسطينية. واستمرت هذه المفارقة بين الاتجاهين إلى ما قبل خمسة اعوام فحسب. فدعمت الجماهير العربية قوى المقاومة اولا في لبنان إبان العدوان الاسرائيلي على جنوب لبنان، وثانيا في عدوانه على غزة في 2008 و2009. كانت قوى «الاعتدال العربي» تمثل الاقلية، بينما كان المزاج العام داعما للمقاومة، وضد الاحتلال الاسرائيلي والتدخلات الغربية، ويعتبر أمريكا العدوة اللدودة للشعوب العربية وقضاياها.
ولذلك تتعمق التساؤلات عن التغير العميق في المزاج العربي ـ الإسلامي الذي جعله يقترب من محور الاعتدال ويبتعد تدريجيا عما يسمى «محور المقاومة». هذا الاضطراب الايديولوجي والسياسي ساهم في اسقاط مقولة «السيادة»، فاصبحت البلدان والشعوب مستباحة، سواء بالتدخلات العسكرية المباشرة ام بطائرات «درون» التي تفتك بالبشر. فأين هي السيادة في العراق؟ او سوريا؟ او ليبيا؟ او اليمن؟ او البحرين؟ الغريب في الامر ان قوى «الاعتدال العربي» التي اصبح بعضها ضمن ما سمي لاحقا «قوى الثورة المضادة» اثبتت قدرة على اعادة تموضعها القومي وربما الوطني ايضا، فاستطاعت مصادرة لغة النخبة وتبنتها لنفسها بعد ان افرغتها من محتوياتها. فكيف يمكن استيعاب استعداد السودان لارسال 6000 جندي للمشاركة في الحرب البرية باليمن، وهو الذي لم يستطع حماية ارضه وفقد ثلثها؟ وقد يغيب عن الاذهان ان الخرطوم هي التي سلمت كارلوس لفرنسا، وهو الشخص الذي كان الفلسطينيون يعتبرونه صديقا لهم. وكيف تترك ليبيا وشأنها، تحترق من داخلها بدون ان يكون هناك من يساهم في لملمة شملها والنهوض مجددا؟ وفيما يتصاعد العدوان الاسرائيلي على الشعب الفلسطيني، لماذا يغيب الاهتمام العربي بتلك القضية التي ما تزال تحظى بدعم القوى التقدمية في العالم؟ اين هي الردود على رئيس الوزراء الاسرائيلي الذي اتهم علنا الحاج امين الحسيني بتحريض هتلر لابادة اليهود؟ اما الشعب السوري فيدفع ثمن التدخلات الخارجية في ارضه التي تحرق كل يوم بلا رحمة. ويأتي التدخل الروسي ليضيف تعقيدات اخرى على المشهد المعقد، وان كان شعاره التصدي للمجموعات الإرهابية التي توافقت كلمة كافة الفرقاء على التصدي لها. الروس يبررون تدخلهم بانه جاء بناء على طلب النظام السوري، ويستشهدون بالتدخل السعودي في البحرين في 2011 الذي برر بانه استجابة لطلب حكومتها، وكذلك التدخل السعودي في اليمن استجابة لطلب «رئيسها» عبد ربه هادي. الامر المؤكد ان التدخلات الخارجية تعبير عن تلاشي سيادة الدولة على اراضيها، وغياب الموقف الدولي المسؤول الذي يحمي الشعوب والدول من الاعتداءات او التدخلات الخارجية. لقد اصبح الجميع مقتنعا بضرورة انهاء مأساة الشعب السوري بعد ان مزقته الحرب الاهلية ودفعت نصف سكانه للهجرة من اراضيهم. وفي ضوء تدفق عشرات الآلاف من المهاجرين إلى اوروبا في الاسابيع الأخيرة، جاء التدخل الروسي ليحقق اهدافا عديدة من بينها التصدي للمجموعات الإرهابية ومنع تقسيم البلاد، ولكن اي تدخل مباشر يحمل معه تعقيداته وتبعاته الخطرة. لقد اصبح السوريون بين مطرقة النظام وسندان المجموعات الإرهابية، ويقتضي الانتماء للدين والانسانية المساهمة في رفع معاناته، ليس بمزيد من الحروب، بل باعادة الامل إلى نفوس اهله بحتمية انتصار الارادة المحلية وكسر كافة محاولات التمزيق والتقسيم وبث المذهبية والتحاقد على اسس الانتماء العرقي او الديني او المذهبي.
روسيا لن تصنع السلام في سوريا، كما ان أمريكا اثبتت عدم مصداقيتها في ما يسمى «الحرب ضد الإرهاب». وقد يدفعها التدخل الروسي لتغيير موقفها، خصوصا بعد ان ألمح قادة العراق لاحتمال الاستعانة بالروس. كما ان افغانستان المحت، على لسان السيد عبد الله عبد الله، المسؤول التنفيذي الاول، لاحتمال طلب مساعدة روسيا في التصدي للمجموعات المسلحة. ولم تساهم الدول الاخرى إلا بصب الزيت على النار. وبذلك تحولت سوريا إلى ساحة حرب بالوكالة، الامر الذي ينذر بتداعيات على البلدان المجاورة خصوصا في ظل ظواهر التطرف والعنف والإرهاب والطائفية.
لقد تحولت المنطقة إلى ساحة للمنافسة بين ارادات الدول الكبرى والاقليمية. وهي منافسة تتخذ اشكالا شتى في ميادين متعددة. ومهما تكون نتائج تلك المنافسة فمن المؤكد ان المنطقة وشعوبها سيدفعون ثمن ذلك: خسائر مادية وفقدان السيادة وتعمق الصراع البيني المؤدي للتمزيق والتفتيت، واضعاف البلدان وربما تمزقها. لقد حان الوقت لصحوة ضميرية ووعي فكري وسياسي وارادة حرة لانهاء المعاناة ليس عبر وسائط التمايز العرقي او الديني او المذهبي، بل بكسر محاولات التضليل والتشويش، ومحاصرة مشاريع منع التغيير في منظومة الحكم العربية.

٭ كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن

د. سعيد الشهابي

القدس العربي