«الحرب بالوكالة» في سورية تستدرج سباقاً إلى الرقّة
لا يحتاج فلاديمير بوتين الى مَن يقول له أن خطته في سورية «خاطئة» أو «وصفة كارثية» أو معطّلة لأي «حل سياسي»، كما لا يحتاج الى مَن يخبره بأن الحرب التي بدأها لن تتوصّل الى القضاء على الإرهاب بل لعلها تضاعف مخاطره، فهو يعرف كل ذلك وربما يقدّر عواقب استراتيجيته على سورية وحتى على العراق، لكنه مهتم فقط بالمقامرة التي يديرها مع الولايات المتحدة، ولديه شعور بأن ثمة ما يمكن أن يكسبه منها. وضع «القيصر» في حسابه أن الخصم الاميركي – الاوروبي لا يريد الانجرار الى تصعيد عسكري في سورية، وللتأكد من ذلك كان الاحتكاك المبكر بتركيا، فوصلت الرسالة الى حلف الأطلسي وجاء الجواب بأن «الناتو» معني بحماية تركيا، أي أنه لا يزال غير معني برعاية أو حماية أي دور لها في سورية. لذلك لم يبقَ لرجب طيب اردوغان، استبعاداً للخطر، سوى التذكير بـ «الصداقة» بين تركيا وروسيا. لكن بوتين لا يستطيع المراهنة على انعدام لانهائي للخيارات الاميركية والغربية.
كان ذلك هو الاختبار الأول للتصعيد في سورية، ولتمكّن بوتين من أن يحصل على تحييد موقت وجزئي لتركيا، موقت لأن المواجهة لا تزال في بدايتها، وجزئي لأنه لن يمنع أنقرة من مواصلة تقديم الدعم العسكري للفصائل المقاتلة في سورية. لكن حليفي موسكو في طهران ودمشق يعتبران هذا «التحييد» معطىً مهماً يمكن أن يبنيا عليه، وقد رأى رئيس مجلس الشورى الايراني، مثلاً، أن التفجيرين الأخيرين في أنقرة «جزء من الأزمة التي تعصف بالمنطقة». وإذ يرتاب الأتراك بأن «أطرافاً خارجية» تعمل على وضع تركيا وأمنها في سياق تلك «الأزمة» فإن معلوماتهم وشكوكهم أصبحت تساوي بين اتهاماتهم لتنظيم «داعش» وبين ضلوع «حزب العمال الكردستاني» في دور إيراني – أسدي. واللافت أن يكون هناك تناغم بين عمليات الطرفين («بي كي كي» و»داعش») لا يمكن أن يفسّر فقط باستغلالهما الظرفي للثغرات الأمنية بل بوجود جهة تخطّط وتحرّك، ولديها أهداف بعيدة المدى.
في أي حال، لم تعد طهران ودمشق تكتفيان بتسويق التدخل الروسي كعامل حاسم لمصلحة نظام بشار الاسد، بل راحتا تتحدّثان عن تغيير وجه المنطقة وخريطتها. أي أن مخططات الملالي عادت للانتعاش بعد مرحلة رمادية امتدّت لشهور واضطرّت خلالها ايران للظهور بمسلك «دولة مسؤولة» تستحق أن يُبرم «اتفاق نووي» معها، ومرحلة تخللتها هزائم للنظام في سورية ومعوقات قنّنت مشاركة ميليشيات «الحشد الشعبي» في الحرب على «داعش» في العراق مع اصرار اميركي على دور للعشائر في تحرير الأنبار والموصل، بل شابتها أيضاً حرب في اليمن فرضت تراجعاً على طموحات النفوذ الايرانية. وعلى رغم أن طهران كانت موافقة على طلب بغداد – نوري المالكي تدخلاً اميركياً لمواجهة انتشار «داعش»، إلا أنها لم تنجح في توجيه هذا التدخل أو في تحويله فرصة لها، لذا استكانت لجعله حافزاً للاميركيين في مسار التفاوض على الملف النووي ورفع العقوبات. وفيما كان الاميركيون والايرانيون يكثرون من مظاهر «تطبيع» تلقائي يسري في ما بينهم، كانت طهران وموسكو تناقشان خطط «ما بعد الاتفاق النووي»، ومنها على الأخص رفع درجة التدخل الروسي، وتغيير قواعد الحرب على الارهاب في سورية والعراق. وبعدما تأكد المرشد علي خامنئي بأن العمليات الروسية بدأت فعلاً ضد المعارضة في سورية عاد فجدّد حظر أي اتصال بالاميركيين خارج ما يتعلّق بتطبيق الاتفاق النووي.
في حدود ما هو معروف عن العمليات الروسية، حتى الآن، فإنها شديدة الارتباط برغبات نظامَي الأسد وأيران. وفي الجهة المقابلة لم يسجّل سوى المزيد من التحليل والتنبؤات بفشل روسي، غير أن الإفصاح عن تسليح أميركي لمجموعات معينة من المعارضين السوريين يشير الى نقلة نوعية في الردّ على التدخل الروسي. ثمة مؤشرات لتبدّل متسارع في خريطة تحالفات فصائل المعارضة المقاتلة في مناطق مختلفة، ما يعكس توصيات الدول الداعمة التي تحتاج الى وقت للتعرّف الى الخيارات الدولية، لا سيما الاميركية، ولبلورة التوجّهات التالية. واذا كانت المعارك البريّة الأولى لم تسفر عن تغيير ميداني واسع وسريع إلا أن نتائج المساندة الجوية الروسية وعدم تكافؤ السلاح لا بد أن تظهر قريباً، حتى لو لم تكن فيها ملامح حسم عسكري للصراع. وفيما يُضعف هذا التوجّه «الجدّية» الروسية في محاربة «داعش» ويجعلها مجرد ذريعة دعائية، إلا أنه يقوّي موقف الايرانيين ونظام الاسد الساعيين أولاً الى إضعاف المعارضة، وقد بيّنت استهدافات الاسبوعين الماضيين اهتمامهم الرئيسي بضرب بقايا «الجيش السوري الحرّ» وتزويدهم الطائرات الروسية قوائم بمواقعه، فهو عدوّهم الحقيقي الذي تضافرت الفصائل جميعاً لإضعافه.
في المقابل يبدو أن الاميركيين يريدون تسريع الحرب البريّة على «داعش»، وافتتاح حملة عليه في الرقّة قبل أن يشقّ الأسديّون والإيرانيون طريقهم اليها. وفي سياق الحديث عن تسليح معارضين سوريين أُشير فجأة الى ما سمّي «التحالف العربي السوري» الذي قيل أن الاميركيين يركّزون على تسليح مقاتليه ليباشروا فوراً محاربة «داعش»، تحديداً في الرقّة. وفُهم من المعلومات الأولية أن الأمر يتعلّق بمجموعات من «الجيش الحر» درّبتها وكالة الاستخبارات الاميركية (بشروط أقلّ تشدّداً من شروط البنتاغون) وحان وقت استخدامها لمنع الروس وحلفائهم من فرض خطّتهم لمحاربة الإرهاب. لكن الجديد أن هذه المجموعات تضم «مقاتلين عرباً»، ويُعتقد أن الغارات الروسية استهدفت مواقعها. وعدا أن هذا التطوّر يتضمّن ملامح تذكّر بسيناريوات مواجهة الغزو السوفياتي لأفغانستان قبل خمسة وثلاثين عاماً، إلا أن الأدوار تغيّرت. ففيما يواصل «داعش» التجنيد والدعوة الى «الجهاد» يحاذر الاميركيون وحلفاؤهم هذه المرّة الإشارة الى أي مغزى «جهادي» كالذي استُخدم لصدّ المدّ الشيوعي آنذاك ثم تطرّف لاحقاً وانزلق نحو الإرهاب.
والواقع أن التدخل الروسي طرح هذه المعضلة على الأطراف التي تواجهه، بل ذهب بعيداً عندما اقحم الكنيسة الارثوذكسية لتزكية ما سمّته «حرباً مقدسة» في الوقت الذي تجهد حكومات عربية وإسلامية لنزع الغطاء الديني الذي يتنكّر به «داعش» وأشباهه، وتصرّ على محاربته باعتباره تنظيماً اجرامياً لا علاقة له أو لأهدافه بأي دين. ومع إصرار روسيا على إغفال حقائق الصراع السوري والشروع في تجريب أسلحتها الفتّاكة ضد المعارضة فقد برهنت عزماً واعياً ليس فقط على استثارة البعد الديني بل خصوصاً على تفجير صراع مذهبي بمناصرتها الحلف الايراني ضد السنّة السوريين. أكثر من ذلك لم يخفِ الروس لامبالاتهم بتحذيرات تلقوها من مصادر عديدة تُلفت الى أن اسلوبهم في محاربة الإرهاب، اذا كانت هي الهدف فعلاً، سيكون بمثابة تعزيز لـ «داعش»، سواء بالتضييق على المعارضة وتدعيشها رغماً عنها أو بزرع أسباب اضافية للتشدد وفتح مرحلة جديدة من «الجهادية» المتهوّرة.
لكن مَن يعتقد أن الروس ذهبوا الى سورية لمحاربة الإرهاب فقد أخطأ ولا داعي لانتظار المزيد مما شهده حتى الآن كي يراجع موقفه. صحيح أن المآخذ على الاستراتيجية الأميركية وانتقاد عدم جدواها والتشكيك بمجرياتها وأهدافها كانت محقّة، لكن الاستراتيجية الروسية بدت سريعاً أكثر اقلاقاً لأنها تريد حسم الصراع السوري لمصلحة الأسد وايران اللذين لا يمانعان تعايشاً مع «داعش» شرط أن توفّر روسيا الوسائل اللازمة لاحتوائه. هذا يفترض أن بوتين جاء الى سورية لخدمتهما، أما الأرجح فهو أنه يتخذ من الحرب على الإرهاب والعبث بها وسيلة لاستفزاز الأميركيين والأوروبيين واستدراجهم الى التفاوض معه على أوكرانيا وملفات الأمن الاستراتيجي، لكنهم يرفضون ولا مانع لديهم من خوض مواجهة طويلة في سورية طالما أنهم لا يورّطون جنودهم. الاميركيون كما الروس متهمون باستخدام «داعش» والاستفادة من محاربته أو ادّعاء محاربته لتحقيق أهداف اخرى لا علاقة لها بسورية.
عبد الوهاب بدرخان
المصدر : الحياة