الدكتور مهيب صالحة: إدلب معركة كسر عظم أم سلسلة مقايضات سياسية جديدة ؟!

20

كل الأنظار تتجه اليوم إلى ما يبدو تسخين الموقف في إدلب، فالطيران الروسي لا يغيب عن سمائها ولا لحظة، ويضرب في كل مكان والقوات الحكومية والميليشيات الإيرانية المساندة لها تتأهب للانقضاض على إدلب وتحريرها من هيئة تحرير الشام ( النصرة ) والجماعات الإسلامية الراديكالية الأخرى، وفتح طريق M4  ( حلب – اللاذقية ) . وطيران التحالف الدولي بقيادة أمريكا يقتل في إدلب أحد قادة منظمة القاعدة بغارة جوية محكمة قد خطط لها منذ مدة . وموعد قريب للقاء الرئيس التركي أردوغان بالرئيس الروسي بوتين وعلى رأس المفاوضات ملف إدلب , حيث رفعت موسكو من حدة نبرتها السياسية تجاه تركيا واتهامها بعدم الوفاء بالتزاماتها التي قطعتها على نفسها في أستانا تجاه ملف إدلب , بعد صمت دام عدة أشهر , ربما استفادت تركيا منه لتمكين نفسها في ريف حلب الشمالي .

تحركات دبلوماسية روسية – أمريكية , وروسية – إسرائيلية , وزيارات لوفود من قوات سورية الديمقراطية ( قسد ) إلى موسكو , وإلى واشنطن , ولقاءات بين وزير الخارجية والمغتربين السوري فيصل المقداد مع نظرائه العرب على هامش اجتماعات الجمعية العمومية للأمم المتحدة من دون أن يأخذ منهم أية وعود بعودة قريبة للسفارات العربية إلى دمشق أو عودة سورية إلى الجامعة العربية أو فتح خطوط السفر والاتصال بين العواصم العربية ودمشق , باستثناء الأردن الذي يعجل من تحسين العلاقات مع دمشق . وربما ربط العرب عودة سورية إلى الحضن العربي بمدى قبول حكومة دمشق للحل السياسي وفق القرارات الأممي 2254 , مع بقاء قطر وحدها تغرد خارج السرب بالمراوحة في خطابها التقليدي الذي يناشد تغييراً جوهرياً في سورية وفق بيان جنيف .

وقبل ذلك صمت دولي وإقليمي مريب حيال ما كان يجري في درعا البلد مع تمرير اتفاق ترعاه روسيا ينهي المظاهر المسلحة في المدينة ومحيطها ودخول قطعات من الجيش إليها وبناء حواجز لها في عموم المنطقة . أعقب درعا البلد ثلاثة أيام ( بروفة ) في السويداء المجاورة لدرعا والتي تشاركها منطقة خفض التصعيد الجنوبية , لم يجرح فيها أحد بالرغم من الحجم الكبير للذخائر التي أطلقت في الجو وأدت إلى إرهاب السكان الآمنين . مواجهات خلبية في ظاهرها صراع بين ميليشيات متخاصمة , ولكن في باطنها مجرد تكتيكات ما قبل المعركة الأخيرة للتدرب على كيفية التعامل مع ما قد يشبه درعا البلد , إذ ربما بلغ التوافق الروسي الأمريكي في الجنوب ذروته على إزاحة الجماعات الراديكالية عن طريق أية تسوية قادمة ترضى عنها إسرائيل في الجنوب السوري , وهو التزام قطعه كل من موسكو وواشنطن لتل أبيب في تفاهمات الاجتماع الأمني الثلاثي وأيضا تأكيد لافروف على أولوية أمن إسرائيل بالنسبة لروسيا .

في السياق ذاته، رفع جزئي , أو غض الطرف عن العقوبات الاقتصادية على دمشق بموجب قانون قيصر بذريعة إمداد لبنان بالكهرباء والغاز والمصريين عبر سورية في الوقت الذي يعرف القاصي والداني أن مصر لم تعد تصدر الغاز لإسرائيل إنما العكس هو الصحيح , وأن صفقة القرن لم تغب عن المداولات السياسية الدولية بل تأخذ مداها في بناء علاقات مختلفة بين تل أبيب وعواصم دول عربية مهمة .وهناك ليس بالبعيد , تهديدات إسرائيلية لضربة قادمة لإيران بسبب اقترابها من صنع قنبلة نووية  في وقت تبتعد فيه عن تفاوض لاتزال واشنطن تبدي الكثير من المرونة تجاهه وتسمح بتمرير النفط الإيراني إلى لبنان عبر بانياس السورية , مع أن إسرائيل لا ترضى عن هذه المرونة وتبدي شكوكها من قدرة التفاوض على تعطيل شراهة طهران لامتلاك أسلحة نووية .

بالنظر إلى هذه اللوحة التشكيلية للعلاقات الدولية التي ترتسم ملامحها على أطراف وفي عمق الملف السوري عامة , قد يستغرب المرء ذلك الحجم الكبير من حملات التكاذب الدولي الظاهر عن انفراجات متوقعة للمسألة السورية , ولكن بالتحليل البسيط لا بد للمرء من تسجيل عدة نقاط  قبل الذهاب بعيداً في تحليل أوجه وإمكانات أية انفراجات متوقعة :

1 – لن تقبل إسرائيل بأي وجود إيراني على حدودها الشرقية وستبذل كل ما بوسعها للحؤول دون ذلك كما ستبذل قصارى جهودها العسكرية والدبلوماسية لإخراج إيران من الجنوب السوري حتى عمق مائة كم على الأقل . في المقابل تدرك إيران أن وجودها القوي في الجنوب يساوي كل وجودها في منطقة الشرق الأوسط وهو من يحمي مشروعها من السقوط .

2 – تتقاطع المصالح الروسية والأمريكية في الجنوب السوري على خطوط تماس المصالح الإسرائيلية , وأي تفكير بتفكيكها أو محاولة عزل المصالح الروسية عن المصالح الأمريكية الإسرائيلية هو ضرب من الخيال , بينما لا تزال مصالحهما تتناقض في الشمال السوري مع خطوط تماس المصالح التركية , شرق الفرات وغربه , وبالتالي قد تقبل أنقرة أية صفقة مع واشنطن في الشمال تكون ( قسد ) جزء منها في الشمال الشرقي , وقد تقبل أية صفقة مع موسكو في الشمال الغربي على حساب إدلب . أما ( قسد ) فكل الخيارات أمامها مفتوحة إذا تخلت عن ارتباطها بحزب العمال الكردستاني في تركيا وتبنت الخيارات الوطنية السورية .

3 – تتمسك موسكو بالنظام القائم  لكن مع بعض الرتوش التي تجعله من وجهة نظرها مقبولاً في أية صفقة مع أمريكا على مستوى حل المسألة السورية أو مع تركيا على مستوى العلاقة معها في إدلب وفي الشمال الغربي .

4 – بالرغم من عدم ثقة أمريكا بإيران فإنها قد تقبل بوجود إيراني محدود في عموم سورية – باستثناء الجنوب – على أن يبقى مفتاح الكريدور الإيراني التنف – البو كمال بيدها لكي تضبط تهريب السلاح الإيراني إلى حزب الله اللبناني .

5 – من مصلحة كل من دمشق وموسكو التمسك بعدم شرعية الوجود الأمريكي والوجود التركي في الشمال السوري لأنه يعطيهما مرونة كافية للمماطلة بأية استحقاقات سياسية تعجل بالتسوية , ويكسبهما المزيد من المرونة من أجل تسجيل نقاط إضافية قبل البدء بأية عملية تفاوضية .

6 – لدى النظام قدرة على اللعب على تناقضات مصالح حليفيه الروسي والإيراني وتقاطعاتهما , لكن لهذه القدرة حدود إذ كلما دنت الاستحقاقات الكبرى عليه أن يحدد خياراته بين خيارات روسية تميل إلى الحلول السلمية على أساس القرارات الدولية التي ساهمت في صياغتها وتبنتها وخيارات إيرانية تتمترس عند انتصارات ميتافيزيقية وهمية . 

لقد أظهرت السنوات العشر السابقة دينامية السياسية الروسية في تحقيق المكاسب على الأرض ومراكمتها لحسابها الخاص حتى غدت الرقم الصعب في معادلات المسألة السورية لكن هذا الرقم يبقى أحد ثوابتها الذي طالما لا يتقاطع مع الحسابات الأمريكية وتفاضلاتها لا يصير متغيراً ذو قيمة كبيرة في التسوية . وروسيا التي ستقود معارك إدلب بعد أن كسبت معركة درعا لن تتوانى عن ارتكاب أي شيء ضد الإنسانية لكسر عظم تركيا هناك ومن ثم دفعها إلى مقايضة محدودة غير ملزمة لروسيا كما حدث في الجنوب .

في المقابل فإن تركيا في حساب المصالح الكبرى مع روسيا لن تغامر بمعركة كسر عظم في إدلب بالوكالة عن الجماعات الإسلامية الراديكالية المتطرفة وهي التي تقدم نفسها للعالم بوجه إسلامي معتدل، وقد تقبل أية مقايضة على قاعدة ( واحدة بواحدة ) , تعطي إدلب وتؤمن الطريق M4 مقابل أن تأخذ وعداً روسياً بإطلاق يدها في الشمال على طول حدودها مع سورية , وخاصة أن أمريكا قد لا تمانع مثل هكذا سيناريو وهي التي تستعجل الرحيل من المنطقة , وتركيا في أية ترتيبات مع الأطراف السورية في الشمال تكون الضامن لاستقرار المنطقة مع المحافظة على أمنها القومي .

إلا أن الجماعات الراديكالية التي تسيطر على إدلب لن تقبل مقايضتها مع روسية وستخوض حرباً ضروساً لن تكون هذه المرة على أساس مواجهات عسكرية نظامية إنما حرب عصابات تستفيد من تضاريس إدلب , وربما تكون قد زودتها تركيا بصواريخ مضادة للطيران محمولة على الكتف وبطائرات مسيرة مما قد يجعل معركة كسر العظم في الاتجاهين ويخفف من الضغوط الروسية على المفاوض التركي . وفي الحالتين فإن تمركز الجماعات الإسلامية ميدانياً يسمح لها بإطالة أمد الحرب – بعكس درعا – مما قد يضعف الموقف التفاوضي الروسي أو يضعف قدرة موسكو على المماطلة في الوفاء بالتزاماتها في الصفقة إن تمت. ويتوقف حجم الدعم التركي للجماعات للمتطرفة في إدلب على حجم التنازلات التي ستقدمها موسكو لأنقرة في عموم الشمال .

وبقدر ما يتشابه الوضع في الشمال للأوضاع في الجنوب بقدر ما تقترب موسكو من واشنطن، ويصبح الحل السياسي قاب قوسين أو أدنى من النضوج، ويكون هذا الحل مبنياً على توافقات دولية وإقليمية أساسها القرار 2254 تتضمن قبول مجلس عسكري من جميع أطراف النزاع وظيفته إعادة الاستقرار الأمني وإخراج الميليشيات الأجنبية , وجمع السلاح خارج سلاح المؤسسة العسكرية ووضعه تحت أمرة واحدة، وقبول مجلس مدني يتكون من التكنوقراط يقود مرحلة انتقالية وفق القرار الأممي المذكور . أما اللجنة الدستورية فلن تتغير تركيبتها إنما ستملى عليها فلسفة جديدة للدستور متوافق عليها بين الأطراف الدولية الراعية تأخذ بعين الاعتبار فلسفة دستور 2012.

من المرجح قبول تركيا والمعارضة السورية التابعة لها، وقبول ( قسد ) خارطة طريق القرار الأممي والتوافقات الدولية  المستندة إليه , مما يريح الوضع في الشمال السوري ويجنبه خطر الانزلاق في معركة كسر عظم  , كما يمنع إيران وأطراف في النظام متضررة من أية تسوية ليست على قاعدتها الذهبية ( غالب ومغلوب ) من لعب ورقة الشمال لخلط الأوراق في عموم سورية طالما ثمة إجماع دولي على إنهاء المسألة السورية على قاعدة ( لا غالب ولا مغلوب ) .

ربما تكون معركة إدلب سواء العسكرية أو السياسية آخر معارك النظام وحليفته إيران إذ أن جميع الأطراف الأخرى صارت على قناعة تامة بأن الخروج من عنق الزجاجة لن يكون سوى عبر تسوية توافقية بين أطراف من داخل النظام , قد يكون الرئيس السوري من ضمنها – هنا لا بد من الإشارة إلى زيارته الخاطفة إلى موسكو في خضم الأحداث السياسية التي سبق ذكرها ولا سيما أن ليس للصدف مكان في عالم السياسة لأن السياسة فعل بشري مبني على حقائق ووقائع ومعطيات ومؤشرات محددة – وأطراف من المعارضة المعتدلة , و( قسد ) وقوى ديمقراطية داخلية , وشخصيات وطنية مستقلة .

إن روسيا الاتحادية غدت على قناعة تامة بأن لا تقدم في العملية السياسية وبناء سلام مستدام وإعادة إعمار ما دمرته الحرب وإعادة تأهيل مؤسسات الدولة وعودة اللاجئين والنازحين وحل المسائل الإنسانية العالقة من دون التوافق على حل سياسي وفق القرار الأممي 2254 , وسرعة استجابتها لآليات تنفيذ هذا القرار من خلال مجلسين أو هيئتين يسرع في نضوج التوافق عليهما وعلى تركيبتهما مع الولايات المتحدة الأمريكية وقوى إقليمية فاعلة، تركيا والسعودية ومصر، وأن أي خروج عن إجماع دولي كهذا سيواجه بقوة جمعية وإرادة سياسية جامعة، عندئذٍ يمكن القول أن تجنب معركة كسر العظم في إدلب سيوفر فرصة تاريخية لمقايضات سياسية مهمة يستفيد منها الجميع باستثناء القوى الراديكالية في المنطقة التي تربط وجودها دائماً بوجود صراعات مركبة ومعقدة .