السوريون

13

لعلها الغارات الإسرائيلية الأعنف في سوريا، أو الأوسع، ذاك أنها كادت تغطي كل المحافظات هناك. النظام السوري في ظل هذه الغارات انتقل من موقع الصامت إلى موقع الشارح. قَدِمت الطائرات عبر هذه الحدود، وغادرت عبر البحر وسقط هذا العدد من القتلى. لكن الطائرات هذه المرة، كما في كل مرة، استهدفت مواقع إيرانية وأخرى لميليشيات غير سورية استقدمتها طهران!

الحرب في سوريا من أغرب الحروب التي شهدتها المنطقة، وربما العالم، ومن أعنفها أيضا. إسرائيل تقصف مواقع إيرانية وتنسق مع موسكو، والأخيرة تقصف مواقع جبهة النصرة وتنسق مع أنقرة، فيما الأخيرة تقصف مواقع الأكراد وتنضوي في تحالف “ناتو” الذي تقوده واشنطن (التي من المفترض أن تحمي الأكراد). 

الخريطة ما زالت تنطوي على المزيد من المفارقات، فالحرب هناك أيضا هي حرب بين تركيا التي تقيم حلفا تجاريا ودبلوماسيا مع طهران، والنظام السوري الذي تحميه طهران. الخريطة متاهة لا نهاية لها، والثابت الوحيد أن العالم قرر أن يُفرغ كل حمولة انعدام الأخلاق التي في جعبته في هذا البلد.

السوريون ليسوا ضحايا نظامهم فحسب، إنهم ضحايانا أيضا، فما أن بدأت الحرب هناك حتى أرسلنا إليهم “المجاهدين” سنة وشيعة

أي دخول على خط الحرب في سوريا يمثل سقطة أخلاقية كبرى، مهما كانت نوايا أصحابه. المساعدات الإنسانية في طريقها لأن تصبح كذلك، فهي بالنتيجة محاولات من قبل المانحين لتعويض السوريين عن دمائهم التي سفكناها جميعنا. الشعور بالذنب هو الفعل النبيل الوحيد الذي يمكن أن نُقدم عليه حيال سوريا. كل واحدٍ منا ارتكب ذنبا فعليا أو ضمنيا حيال هذا البلد. 

من لم يُقدم على فعل مباشر ارتكب حماقة الانحياز لمعركة أو لجماعة أو لـ”إنجاز” أو توهم خيرا فيها، أما من أخذته عصبية الانقسامات القومية أو المذهبية أو المناطقية إلى المشهد السوري، فسقطه تغمست بدماء سوريين، وابتسامته في لحظات “النصر” أخفت أنياب قاتل متعطشٍ للالتهام.

والسوريون ليسوا ضحايا نظامهم فحسب، إنهم ضحايانا أيضا، فما أن بدأت الحرب هناك حتى أرسلنا إليهم “المجاهدين” سنة وشيعة. وصل هؤلاء إلى سوريا من بلادنا ومن حروبنا الأهلية ومن انقساماتنا. وما أن تدفق اللاجئون إلى بلداننا حتى أدخلناهم في فسادنا وفي كراهياتنا، فكانوا الأضعف وكانوا الضحايا، ومارسنا عليهم ما لا نقوى على ممارسته مع جلادينا، وهم اليوم شركاء جوعنا ورفاقنا في الرحلة إلى الهاوية.

السوريون اليوم أمام استحقاق قانون قيصر، الذي تقول واشنطن إنه لا يهدف إلى إسقاط النظام إنما لـ”تغيير سلوكه”! علينا ألا ننسى هنا أن الغارات الإسرائيلية المتواصلة على سوريا لا تهدف أيضا إلى إسقاط النظام، وأن أنقرة أسقطت بند تغيير النظام في مفاوضاتها مع طهران ومع موسكو. وأن دول الخليج العربي استأنفت علاقات متفاوتة مع النظام. 

إذا لماذا كل هذه الحروب، ولماذا الحصار؟ النظام لن يغير سلوكه، فهو إذا فعل يكون قد حفر قبره بيديه. هذه حقيقة يعرفها العالم كله. العقوبات ستضعف النظام وستصيب حلفائه، لكنها لن تغير من معادلات الحروب البطيئة والدموية هناك، والتي من الأرجح أن تتواصل. لكن العقوبات ستصيب السوريين أكثر مما ستصيب النظام وأهله. الثمن لا يستحق كل هذه الدماء وكل هذا الجوع.

الستاتيكو لا يقتصر على الجبهة مع إسرائيل، إنما على كل الجبهات السورية، وهو ستاتيكو دموي لا يهدد الدول ولا يحد من طموحاتها، وثمنه دم سوري، وجوع سوري ومآسٍ سورية

إسرائيل تقصف لإدامة ستاتيكو الحدود الآمنة بينها وبين سوريا، وبينها وبين لبنان. الستاتيكو القائم على حدودها مع سوريا منذ نحو 50 عاما، وعلى حدودها مع لبنان منذ نحو 15 عاما، وهو يتطلب تذكيرا متواصلا بمعادلة القوة والتفوق. موسكو معنية بحضور مباشر على ساحل المتوسط وبوجود قيادي في التحالفات الشرق أوسطية. هذه المهمة يلبيها نظام هش ومتهالك وضعيف في سوريا. 

عين تركيا على أكراد سوريا، وعلى طموحاتهم الفيدرالية. النظام لا يعيق العين التركية الساهرة على طول حدودها مع مناطق الأكراد. أما طهران، فهلالها الشيعي المنتكس بفعل العقوبات الأميركية، فلا مانع لديها من تحمل نتائج الغارات الإسرائيلية طالما أن وظيفة هذه الغارات غير استئصالية.

إذا الستاتيكو لا يقتصر على الجبهة مع إسرائيل، إنما على كل الجبهات السورية، وهو ستاتيكو دموي لا يهدد الدول ولا يحد من طموحاتها، وثمنه دم سوري، وجوع سوري ومآسٍ سورية. وأي تغيير جوهري في خريطته سيرتب على الدول المرتكبة أكلافا ليست مستعدة لدفعها.

لهذه الأسباب قصتنا مع المأساة السورية طويلة جدا. ولهذه الأسباب لا يملك المرء ليقدمه لأهل هذا البلد سوى شعور بالذنب يتشاركه معهم ويجعله وسيلة تقوده إلى قناعة بالعجز وبالانسحاب من الرواية الكبرى، والبحث عن سوري هارب لإغاثته أو لحمايته من حماقة دولة مضيفة، ومن عنصرية مجتمع يحاول أن يعوض فشله برفع منسوب الكراهية حيال هؤلاء الضحايا.

 

 

 

الكاتب:حازم الامين – المصدر:قناة الحرة