العودة إلى ما قبل الربيع العربي.. سورية نموذجاً
شكّلت موجات الربيع العربي في عامي 2010-2011 اختباراً حقيقياً لكل الصيغ السياسية والأمنية والاقتصادية الحاكمة، سواءً على صعيد تلك الدول التي اجتاحتها هذه الموجات، أو التي لم تجتحْها، فصدّعت أنظمة وهدّدت وخوفت أخرى، وبدأت إرهاصات ما سميت “إعادة ضبط بوصلات التشكل وفق العامل الوطني”، وأضحت تبرز أولوية أساسية للمجتمع العربي الذي رأى في الثورة فرصةً لاسترداد البلاد، والمشاركة الحقيقية في صنع قراراته وسياساته وتنفيذها؛ إلا أنه سرعان ما تم دفع تلك الإرهاصات إلى اتجاهات تخدم بنتاجها سرديات الصيغ الحاكمة، عبر إمعان السلطات المثار عليها، أو السلطات التي تخشى انتقال العدوى الثورية إلى مجالها الجغرافي في استخدام الأدوات الأمنية، سواءً المرتبطة بممارسات عنفية أو القائمة على فكر ودفع أمني، كـ “الاختراق والتوظيف والتحكم”؛ فسادت مقاربات “الثورة المضادّة” كديناميات متوقعة، يُراد لها أن تكون “واقعية” أمام ذاك المستقبل “المبهم” الذي تعد به قيم الربيع العربي، والتي تهدّد به معادلات الجيوسياسة الحاكمة في النظام السياسي الإقليمي، ومحطماً كل التحالفات التي أنشأتها شبكات الفساد والإفساد السلطوية ومنظروه، غير مكترثٍ بتكلفة الوصول، لأنها تكلفة سيتم دفعها عاجلاً أم آجلاً.
اليوم؛ وبالنظر إلى النتائج العامة للمشهدين السياسيين، المحلي والإقليمي؛ باتت غالبية الدفوعات السياسية التي جاهدت في تكسير سياسات التغيير وتشويهها تصب لصالح نظرية “العودة إلى صيغ ما قبل الربيع العربي”، فعلى المستوى السياسي المحلي داخل الوحدات السياسية في المنطقة العربية، بدأت تبرز نجاعة مقاربات ما قبل أحداث الربيع العربي كـ”موت السياسة”؛ و”تأليه السلطة”؛ و “التنكّر من حركات التحرّر والتغيير”؛ و”قداسة فكرة العبودية”؛ و”قصائد مدح السلطان”؛ و”سياسات تسطيح المجتمع”. مضافاً إلى تلك المقاربات، برزت عمليات النسف “البراغماتي” لبعض القيم الاجتماعية، كالمناصرة والدعم؛ إذ تسيّدت ثقافة “الأنانية” فتحوّلت الطبقات الاجتماعية (بجُلها) إلى طبقات عددية مستهلكة مروضة، ترتكن (طوعاً أو قسراً) إلى سرديات السلطة، ناهيك بتسليمها الكامل قواعد “وأد” الإنتاج الإبداعي أو الثقافي الأصيل.
على المستوى الإقليمي؛ من جهة أولى، ضمنت من جديد إيران وتركيا و”إسرائيل” مكانة المركز في النظام السياسي الإقليمي، بعد أن بدت فرص محاصرة إسرائيل وتحجيم إيران والشراكة الاستراتيجية العربية التركية فرصاً قابلة للتحقيق مع حركات الربيع العربي. ومن جهة مقابلة، عادت الدول العربية لتغيب عن أي دوائر تأثير، بحكم استنزاف قدراتها، وتشتت اهتماماتها وطبيعة تحدياتها المحلية، ما دفعها إلى البحث عن تحالفاتٍ مع إحدى الدول الثلاث، وهذا ما كان سائداً بشكل أو بآخر قبل الربيع العربي؛ وهذا ما دفعت أيضاً باتجاهه القوى الإقليمية والدولية لإدراكها ضرورة عودة الضبط الأمني في المنطقة، بصيغ تعرفها وتدرك حدودها، فكانت حركية هذه القوى، أياً كانت ادعاءاتهم، ترتكز على المحدّد الأمني المغيّب أية معايير إنسانية والمتغافلة عن الانتهاكات، فكما كانت المعادلات الأمنية مضبوطة ببوصلة أمن “إسرائيل”، باتت كل التفاعلات السياسية تلحظ هذه البوصلة، وتعدّها شرطاً لازماً لرسم ملامح الأطر السياسية الحاكمة في المنطقة.
لا تعد سورية، وفقاً لأعلاه، استثناءً تتضمنه نظرية “العودة إلى ما قبل 2011″، فمدخلات المشهد العام تؤكد ذلك، فلا تغيير سياسيا أو سياساتيا، بل تحكّم السلطة بكل ميادين السياسة ومساحات “الإصلاح” المحتمل. وبقاؤها “رمزاً” أبدياً لن يزول، ولا تغيير لفلسفة الأجهزة الأمنية وبنيتها ووظيفتها، بل تعزيزاً لها مع ظهور شعارات “القضاء على أعداء الوطن”، وسعيها الدؤوب إلى تحصيل وطن “متجانس”؛ ولا حرية سياسية ولا اجتماعية ولا اقتصادية؛ ولا تغيير في المنظومة القانونية (يتحكّم بها قرابة 15 قانونا استثنائيا ومحكمة إرهاب يديرها ضباط)؛ ولا حياة حزبية صحية، في ظل زيادة مؤشّرات تغوّل حزب البعث، وبقاء سيطرته في الجيش والأمن، وأهم الوزارات السيادية، وكل الوحدات الإدارية في الجغرافيا السورية؛ ولا تمكين للمجتمعات المحلية التي عانت ما عانت من جوْر سياسات “التنمية المركزية غير المتوازنة”؛ ولا حرية ثقافية خارج ثقافة “الممانعة”، فعداها خيانة وإرهاب وتقويض وزعزعة لهيبة الأمة ونفسيّتها؛ ولا إصلاح قضائيا، ولا مؤشرات قانونية لفصل السلطات واستقلال القضاء، بل ربطه الدائم بمكاتب الاستخبارات وإملاءاتها؛ ولا … إلخ.
إذاً، تسير كل المؤشرات بتسارع واضح نحو صيغ ما قبل الثورة، خصوصا بعد محاصرة المعارضة السياسية والعسكرية، وجعل هوامش حركتها غير ذات جدوى، مع فارق عميق (لا يكترث له النظام) أن تلك العودة محمّلة بارتكاسات اقتصادية واجتماعية وسياسية وإنسانية، وتزداد حدّةً، في ظل استمرار وأد اللحظة السياسية الجديدة في البلاد، لصالح عمليات ترميم النظام، وإعادة تشكّله (تجمع كل القوى الدولية على ضرورته)، لحظةً تحتاجها عجلة البناء للمضي في امتحانات التماسك الاجتماعي، وبناء الشرعية الممهدة للاستقرار.
تفترض نظرية العودة التي ترجو الضبط الأمني تغليباً مستمراً لمصالح السلطة، وحلفائها الدوليين؛ وتنفيساً للاستحقاقات والامتحانات السياسية؛ والأهم مسحاً متعدّد المستويات لكمٍ من الجرائم، لم تنته بعد؛ وتغييرات ديمغرافية لا تُحمد عقباها؛ وعددا من القواعد الأجنبية وملحقاتها الاستخباراتية في الجغرافيا السورية؛ وتضافر الجهود الدولية والإقليمية والمحلية في عملية إعادة الإعمار والعودة “الطوعية للمهجرين واللاجئين”؛ وغيرها من موجبات تمكين النظام وإعادة تعويمه، ولا تلحظ (ولا تعنيها) تلك النظرية (وداعموها) بنية الدولة وهويتها وطبيعة تفاعلاتها السياسية، ولا بنية المجتمع وعوامل تمكينه واستقراره وأمنه، فالأولى لا ضير من أن تكون فاشلة، والثانية لا حرج من عدم لحظها أصلاً؛ طالما أن جغرافيا معقدة، كالجغرافيا السورية، لا تشكل عائقاً أمنياً أمام إسرائيل، وأن مجتمعاً حياً، كالمجتمع السوري، تم أسر حريته لصالح هندسة سياسية، تراعي كل شيء إلا سورية الفاعلة، والقادرة على البناء الحضاري.
ربما تخدم نظرية العودة تلك مصالح شبكة من الفواعل المحلية والإقليمية والدولية؛ إلا أنها لا تدرك، ولا تريد أن تدرك، الثمن الباهظ لهذه العودة التي ستبقى هشّة، ودائمة التعرّض للزلازل والحرائق؛ وبأنها مهما تمترست، فإنها لن تشكل أسساً ولبناتٍ لدولة ومجتمع مستقر؛ فالعودة المحمّلة بالدم لن تنتج إلا اعتلالاتٍ مرضية وموتاً وظيفياً، ومنطق التاريخ سيبقى يفرض درسه بأن الثورة، وإن تعثرت أو حوربت أو قمعت، فهي تنتج أحداثاً يصعب تجاوزها وإغفالها؛ فهي لحظة حاسمة في التاريخ، ما بعدها ليس كما قبلها.
معن طلاّع
المصدر: العربي الجديد