” العودة الطوعية” و الخطة التركية الشاملة لشمال سوريا: التخلص من اللاجئين أم من الكرد؟

82

 في الإعلان التركي عن مشروع “العودة الطوعية” للاجئين السوريين من تركيا، أمرٌ جديد فقط هو تزامنه مع تصاعد السجال الداخلي في تركيا حول اللاجئين، إذ تتهم المعارضة  التركية نظامَ أردوغان بالتسبب بالعبء الاقتصادي المُفتَرَض الذي يشكّله  اللاجؤون على الاقتصاد التركيّ ( وهو زعمٌ بحاجة للكثير من الاحصائيات والدراسات المحايدة) في ظل استمرار تدهور العملة التركية و التضخّم غير المسبوقين و بعض الإشكالات السياسية والاجتماعيّة الناتجة من وجودهم على الأراضي التركية.

أمّا مشروع إعادة اللاجئين السوريين إلى “المنطقة الآمنة” شمال سوريا بمحاذاة الحدود التركية، بعد مزاعم عن تأمينها وتوفير الخدمات الأساسية والظروف المناسبة،  فيجري العمل عليه منذ سنوات. الإعلان عن خطّة” العودة الطوعية” تتويج لسياسات الحكومة التركية في السنوات الأخيرة وحسب، و رسالة للداخل التركي أساساً.

ووفق الإعلان التركي ستكون العودة إلى 13 مدينة و بلدة من إعزاز غرباً إلى رأس العين شرقاً( عدا المناطق الخاصعة لسلطة الإدارة الذاتية بين تلك المواضع). من الملفت أنه لم يرد أي ذكر لمنطقة “عفرين” بين محطات العودة “الطوعيّة” على لسان الرئيس التركي وشروحات تركية أخرى. سوف ننتظر تفاصيل المشروع المفتَرَض، لكن على الأرجح أن غياب ذكر “عفرين” المحتلّة تركيّاً ليس سهواً، بل لأن مشروع الإسكان التركيّ في هذه المنطقة قد وصل إلى ذروته من حيث الطاقة الاستيعابيّة للسكان، ولم تعد تحتمل المزيد من تكديس السكان فيها، أو درءاً للمزيد من الصداع الذي خلّفته “قضية عفرين ” للمسؤولين الأتراك جرّاء انتقادات من منظمات حقوقية دولية ومسؤولي بعض الدول وتداول إعلامي واسع  للوضع الكارثي الذي خلّفه الغزو التركي، مع ميليشياته السورية العميلة،على سكان المنطقة والتغيير الديمغرافي الشامل الذي جرى وفق منهجية متعمّدة من قبل الحكومة التركية استهدفت إمحاء الطابع الكردي في تلك المنطقة وتذرير المجتمع وسحقه. أو لخصوصية الوضع في عفرين في نظر المسؤولين الأتراك كملف منفصل، يتجاوز كونها منطقة “آمنة” داخل سوريا، بل أضحت تابعة لتركيا (على غرار جزيرة “قبرص” الشمالية) وأُغلق ملفّها؟

ليس استهداف الكرد و وجودهم هو الدافع الوحيد وراء مشروع ترحيل اللاجئين السوريين من تركيا إلى سوريا. هناك اعتبارات تركية داخلية وانتخابية وأخرى خارجية بالطبع كما أشارت التحليلات.

إلّا أنّ الوقائع الجارية منذ سنوات وحتّى اليوم، وكذلك المواقف المُعلَنة للمسؤولين الأتراك على كافة المستويات، لا تترك مجالاً لتجاهل الهدف الاستراتيجي الكبير وراء الغزوات و الحملات العسكرية التركية على سوريا: هندسة سكانية شاملة، تركيبة جديدة تصنعها تركيا بنفسها، جار سوري جديد لتركيا، عبر تدمير المجتمعات الكردية على الحدود مع تركيا وتشتيتها والتخلّص من الجيران المنبوذين، إلى الأبد.

وإذا كانت النبرة و الأصوات الكردية التي هبّت في الأيام الأخيرة للتنديد بمرامي الأهداف التركية من وراء خطتها الجديدة، محقّة و مفهومة تماماً، فإنني أرى أن الأسوأ في الخطة التركية المرسومة لشمال سوريا في دوائر العقل الاستراتيجي التركي، لم يتحقّق بعد، ويبدو أن ثمّة عراقيل جديّة وراء اكتمال الخطة التركية الشاملة لشمال سوريا. و أرى أن خطة ترحيل اللاجئين السوريين من تركيا، تشكل تراجعاً بدرجة ما، أو تعليقاً راهناً، عن الهدف الاستراتيجي التركي الكبير الذي أعلنته الحكومة التركية بنفسها، بشكل علني.

“منطقة آمنة”: لماذا ؟

كان طرحُ ” المناطق الآمنة” مُدركًا أساسيًا في المقاربة التركية تجاه الأزمة السورية ومنذ بدايتها وقبل موجات اللجوء نحو تركيا، بحجة تأمين حدودها من الخطر الكردي المزعوم، وقبل تواجد أيّة من التشكيلات العسكرية والإدارية والسياسية التي تشكلت منها الإدارة الذاتية أو قوات سوريا الديمقراطية أو سيطرتها على أية منطقة، ومن أجل حماية المدنيين من بطش النظام.

تحجّجت الحكومة التركية بأن أمنها القومي مُهدّد بسبب تواجد “كيان إرهابي وإرهابيين” على حدودها وما من حلّ تملكه سوى الهجوم والاحتلال العسكري المباشر للقضاء على ما تسميه بالتهديد الإرهابي، ويقصد به الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا التي يقودها الكرد، ووجود قوة عسكرية بقيادة كردية حاربت الإرهاب في تلك المنطقة السورية.  غير أن الحدود السورية التركية ظلت آمنة تماماً طيلة سنوات الأزمة السورية من الجهة السورية ، فقد التزمت وحدات الحماية الشعبية الكردية وقوات سورية الديمقراطية بحماية الحدود ولم تشن أي هجوم على الأراضي التركية، على العكس تماماً كانت الحدود من الجهة التركية مصدر تهديد خطير جداً على السيادة السورية وعلى أمن السكان في الجهة السورية؛ من دعم المتمردين بالسلاح والعتاد، وجعل مناطق جنوب تركيا ساحات تدريب للمسلحين السوريين، إلى إدخال عشرات آلاف الجهاديين من شتى دول العالم إلى داخل الأراضي السورية ، وصولاً إلى الاحتلال المباشر من قبل تركيا للأراضي السورية.

 لم تلقَ الدعوات التركية المتكررة أي دعم دولي جدّي، لا سيما من جانب الولايات المتحدة في زمن إدارة أوباما. غير أنه بفضل موقع تركيا الهام في المنطقة، و تحالفاتها الثنائية مع واشنطن و موسكو، وتحكمها بجوانب عديدة من الأزمة السورية ورغبة الغرب في إطالة أمد الكاثة السورية، تمكنت أنقرة لاحقاً من شنّ حملات عسكرية عديدة على مناطق في شمال سوريا، استهدفت الكرد والإدارة الذاتية أساساً، وأنشات نماذج من ” إقطاعات عسكرية” في مناطق عدة من شمال سوريا، لا تجسّد أيّ وجه لأمان حقيقي في تلك المناطق. وتمكنت من طرد الكرد من تلك المناطق، على نحو ممنهج، تحديداً من منطقة عفرين-شمال غرب حلب ذات الغالبية الكردية المطلقة التي باتت شبه خالية من سكانها الأصليين بعد الغزو التركي عام 2018 الذي أطلقت عليه تركيا عملية( غصن الزيتون)، ومن المنطقة الممتدة بين مدينتي رأس العين( سري كانيه) وتل  أبيض في عام 2019م عبر عملية سُميّت بـ ( نبع السلام) حيث تم تفريغها من الأقلية الكرديّة بشكل شبه كامل.

 المشروع التركي الكبير: محو الكرد

في المعقل الكردي التاريخ الهام غرب الفرات ، عفرين/جبل الكرد، تم إنجاز الخطة التركية بشكل كامل، ونفّذ أردوغان وعدَه بتخفيض نسبة الكرد و على أفضل وجه ،  أما في شرق الفرات( الجزيرة السورية) فقد تعثّرت الخطة الطموحة للغاية بعضَ الشيء، نظراً لضخامتها الشديدة واصطدامها بعراقيل أمريكية بالدرجة الأولى، وبمساومات مع الجانب الروسي من جهة.

في الواقع لم يترك أردوغان مجالاً  لتحليل مرامي دولته من وراء مشاريع المناطق الآمنة المزعومة شمالي سوريا. ولعلّ أوضح تصريح تركي عن ما تسميه تركيا ب”المنطقة الآمنة” المزعومة هو الذي جاء على لسان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، من على منبر الأمم المتحدة بتاريخ 24/9/2019 ( وليس في مجلس الأمن القومي التركي – المعقل التنفيذي للفاشية التركية) حين عرض خارطة للمنطقة الآمنة المزعومة من جرابلس حتى الحدود العراقية أي بطول نحو 440 كلم وعمق 32 كلم.

و عرض أردوغان للحاضرين خارطة تظهر الشكل المفترض لهذه المنطقة، مضيفا: “بعد إقامتها، سيصبح بإمكاننا إعادة مليون أو مليوني لاجئ سوري إليها، سنتمكن من خلق ظروف ملائمة لهم، سواء بالتعاون مع الولايات المتحدة أم تحالف ما أو أي أحد آخر، لكن تركيا غير قادرة على القيام بذلك لوحدها”.  وتابع أردوغان: “في حال مد عمق المنطقة الآمنة إلى خط دير الزور- الرقة، سيكون بوسعنا رفع عدد السوريين الذي سيعودون من بلادنا وأوروبا وبقية أرجاء العالم لوطنهم إلى 3 ملايين شخص”. (وكالات أنباء: أردوغان يعرض خطة “المنطقة الآمنة” شمال سوريا في الجمعية العامة. تاريخ النشر24.09.2019).

بيدَ أن أخطر تصريح في هذا الصدد كان في مقابلة للرئيس التركي أردوغان في 25 أوكتوبر2019 مع قناة تلفزيونية تركية (TRT)؛ جالساً على كرسيه ويوجّه مؤشر الليزر إلى خريطة ( المنطقة الآمنة) التركية المزعومة- تشمل كافة مناطق شمال سوريا التي لم تحتل من قبل تركيا بعد-  شارحاً بلغة “استشراقية ” كاذبة : أن هذه المناطق لا تناسب الكرد، لأنها مناطق صحراوية، لذلك فهي تناسب نمط حياة العرب لا الكرد!

جاء هذا التصريح  بمثابة اعتراف متكرر و إعلان صريح من قبل الدولة التركية لهدفها القاضي بإجراء هندسة اجتماعية عميقة وجذرية في شمال سوريا، تقوم على طرد وتهجير الكرد من منطقة الجزيرة السورية، وتوطين عرب وتركمان من مناطق أخرى في مكانهم استكمالاً لما أنجزه الجيش التركي وأعوانه السوريين في هذه الخطة بجدارة في  منطقة جبل الأكراد / عفرين التي أفضت إلى طرد وتهجير الكرد بعد عدوان اسمته تركيا حينها بعملية “غصن الزيتون” ، وهي منطقة جبليّة و ليست “منطقة صحراوية”، وتم إسكان عرب وتركمان من مناطق أخرى في ديار الكرد المهجرين قسراً. وأيضاً في الداخل التركي نفسه خلال السنوات الماضية من حيث هدم المدن الكردية وطرد السكان الكرد من كردستان تركيا، وجعلها بمثابة ثكنات عسكرية.

هكذا إذاَ لا المناطق الصحراوية والسهول تناسب الكرد، ولا الجبلية والمرتفعة تناسبهم. و الحقيقة أن “المناطق الآمنة” التركية المزعومة ليست إلا الإسم المستعار لعمليات طرد وتهجير الكتلة الاجتماعية الكردية وتفكيكها وبعثرتها، وتالياً التخلص من” الكابوس الكردي” لعقود، كما هو مقرر لدى أجهزة الدولة التركية، عن طريق تفريغ المناطق والبلدات ذات الأغلبية الكردية وإسكان سوريين من مناطق أخرى في مكانهم بحيث يتم تشكيل حزام (عربي- تركماني) بين كرد سوريا وكرد تركيا. والقضاء على القضية الكردية في سوريا، بل الوجود الكردي نفسه. نحن أمام خطة بعيدة الأهداف تقوم على إجراء هندسة اجتماعية عميقة، تعيد إلى الذاكرة عمليات  الإبادة و التبادل السكاني والتطهير العرقي داخل تركيا في بدايات القرن المنصرم.

ويبدو أن هذه الخطط المُعلنة هي التي دفعت الرئيس الأمريكي حينها، وصديق أردوغان،  دونالد ترامب، الذي تُسجّل له صراحته الفائقة و إفشاء أسرار الاجتماعات المغلقة مع مستشاريه أو اتصالاته مع نظرائه من قيادات الدول حول العالم، حين صرح أن أنّ “إردوغان كان يرغب في محو الكرد على الحدود مع سوريا، وطلبت منه عدم فعل ذلك.”

وقد كان الرهان التركي وقتها أن يتم إسكان نحو مليوني لاجئ سوري من داخل تركيا في هذه المنطقة (و هم بمعظمهم من سكان مناطق سورية أخرى)، وقد حدّد الرئيس التركي مساحة الأبنية والحدائق التي يرمي إلى بنائها من قبل شركة إنشاءات هندسية مقربة منه وحزبه، و طالب الاتحاد الأوروبي بتمويل هذ المشروع الطموح في سياق ابتزاز الدول الأوروبية المستمر بإطلاق اللاجئين السوريين نحو أوروبا إن لم يدعموا خططه هذه. وربطاً بموضوع” العودة الطوعية” نلاحظ تشابهات مع الخطة التي لم تتحقق بشكلها المرجو في سياق غزوة” نبع السلام” من حيث الوعود بالمساكن والحدائق والمدارس. فهل تلقّى الرئيس التركي هذه المرّة وعوداً من دول خليجية( بجانب قطر التي مولّت وتموّل الحرب التركية على سوريا وغذّت الحريق السوري بكل ما تملك من مال وشراء ذمم المعارضين واخطبوط إعلامي) أو من دول أوربية بدعم وتمويل خطة” العودة الطوعية” ؟ أم سيكون مصير وعوده الجديدة مثل سابقتها، وهو الاحتمال الأرجح ، وسيرمي باللاجئين، و” المُستَضعَفين ” منهم خصوصاً، في منازل مبنية على عجل وتكديسهم هناك ، كيفما اتفق ، تحت رحمة وكلائه وعملائه السوريين من عناصر الميليشيات الإرهابية التي تفتك بالمدنييّن في مناطق احتلالها وفي حالة اقتتال شبه يومي بين بعضها البعض؟

“المنطقة الآمنة”: الكثير من التتريك والتطرّف واللّاأمان 

إنّ القول بأن الهدف الرئيسي من وراء الغزوات التركية المتلاحقة داخل الأراضي السورية هو إنهاء القضية الكردية والوجود الكردي، لا يعني بأنّ هذه الغزوات تأتي لصالح المكونات الأخرى في هذه المنطقة، من عرب وسريان- آشور، مسلمين ومسيحيين وإيزديين.  المعادلة التركية البغيضة والعِدائيّة التي تتجسّد فحواها بأنّ كل ما يؤذي الكرد هو لصالح تركيا، هي معادلة فاسدة وخاطئة ، إن في تركيا أو في سوريا. والأمثلة أمام أعيننا من كافة المناطق التي احتلّها الجيش التركي وأعوانه السوريين.

في الحقيقة إن خطة الهندسة الاجتماعية التركية لشمال سوريا، إضافة لتفكيك المجتمع الكردي كهدف أساسي في هذه الخطة، تهدف أيضاً إعادة تشكيل المجتمع بكلّيته على أسس جديدة: التتريك، بفعل حضور أجهزة الدولة التركية نفسها من الأمنية والعسكرية و الإدارية إلى التربوية والتعليمية والمؤسسات” الخيرية” والجوامع و الدور الموكل لوقف الديانة التركية-ديانت( المرتبط مباشرة بالرئاسة التركية) ، أو دعم الفصائل العسكرية والسياسية التركمانية التي أسّستها المخابرات التركية نفسها وجعلتها ذات سطوة على غيرها من الفصائل العميلة لأنقرة ، الأسلمة وخصوصاً بطبعتها الإخوانية، أو لنقل الأردوغانية، استتباع السوريين و إذلالهم بجعلهم” جيش وطني سوري” و واجهاته السورية السياسية والإعلامية من “إئتلاف وطني” وتفرعاته، الإتجار بهم  وبقضيتهم عن طريق ابتزاز أوروبا بهم، أو إرسالهم كمرتزقة إلى ساحات خارج سوريا خدمة لأجندات تركيا في ( ليبيا، آذربيجان..) ، تشكيل ملاذ آمن للمتشددين، أي باختصار تأسيس قواعد تركية متقدمة داخل العمق السوري تخدم فقط أجندات الدولة التركية داخل سوريا في المستقبل المنظور والبعيد، وهي ألغام خطيرة تزرعها الحكومة التركية في التربة الاجتماعية السورية ولا تقل خطورة عن أسلحتها الفتّاكة التي تستخدمها في حربها على هذه المنطقة وسكانها، و قطعاً هي ليست لصالح السوريين من غير الكرد أيضاً.

بدرخان علي

المصدر: المركز الكردي للدراسات

الآراء المنشورة في هذه المادة تعبر عن راي صاحبها ، و لاتعبر بالضرورة عن رأي المرصد.