الغرب والأسد والمسألة الأخلاقية
المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعبر بالضرورة عن رأي المرصد السوري لحقوق الإنسان
بإرسالها لمذكرة دبلوماسية خاصة إلى حكومة النظام السوري خلال الأيام الماضية، تذكرها فيها بالتزاماتها حسب اتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب، تكون الحكومة الهولندية قد قطعت الإجراءات الأولية الممهدة لرفع قضية ضد النظام السوري في محكمة العدل الدولية في مدينة لاهاي، حسبما صرح أكثر من مسؤول هولندي، بما في ذلك رئيس الوزراء الهولندي.
فالنظام السوري حسب المسؤولين الهولنديين قد اقترف جرائم مروعة بحق مواطنيه المدنيين طوال العقد الماضي، تجاوزت أعدادهم نصف مليون ضحية مؤكدة، وشرد قُرابة نصف سكان بلاده، وهو أمر يدفع الحكومة الهولندية لرفع مثل هذه الدعوة، طالما أن البلدين، هولندا وسوريا، عضوان موقعان على اتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب.
رغم الغبطة الأولية بالحدث، لكن يصعب للغاية فهم وتصنيف هذا الإقدام الهولندي المفاجئ بسهولة، دون طرح كتلة من التساؤلات التي تحيط به.
إذ لا يُعرف أكانت هذه خطوة ضمن الالتزام الأخلاقي لهولندا والدول الأوروبية بالمنظومة العالمية لحقوق الإنسان! وتاليا لماذا الانتظار لعقد كاملٍ حتى تُتخذ هذه الخطوة! حيث بدأ النظام السوري سلوكه في ممارسة القتل العام الممنهج منذ الشهور الأولى للثورة السورية، وأعداد ضحاياه تجاوزت عشرات الآلاف بعد أسابيع قليلة من ذلك التاريخ (مارس 2011)، وما يزال مستمرا بنفس الوتيرة، فأين كان هذا الالتزام الأخلاقي والحقوقي منذئذ؟
لا يحق للغرب طلب تعاطف إنساني عالمي في مواجهته لآفة التطرف والإرهاب دون إصراره على روحه الأخلاقية تلك
أم أن المسألة سياسية، وبالتالي فإن الخطوة الهولندية/الأوروبية/الغربية هي فقط واحدة من أدوات الضغط على الأسد ونظامه، لاجتراح بعض التنازلات منه، السياسية منها بالذات، تحديدا منها تلك التي تمس الأمن القومي الأوروبي، حيث ثمة محاولات لإغلاق الملف السوري نسبيا، الذي صار يمس المصالح الأوروبية جذريا.
هذا التفسير الأخير الذي يتطلب بالضرورة إيقاف كل أشكال التهليل والترحيب بالخطوة الهولندية، الذي يشبه في بُعدٍ هزلي منه دراما السينما الهندية التقليدية، حينما تدخل إحدى الشخصيات الدرامية نوبة من صحوة الضمير الأخلاقي فجأة، فيغير تماما من سلوكه الذي كان!
لا يدخل هذا الجدال في باب خطاب سياسي كان وما يزال رائجا وتتداوله بعض النُخب والقواعد الاجتماعية السورية التي تزجر الدول والثقافة الغربية من باب “لكن لماذا لا ينقذوننا من ديكتاتورية الأسد طالما أنها دول تدعي دعمها للديمقراطية وحقوق الإنسان؟”. فإزاحة الأسد، أو ما شابهه من ديكتاتوريات شمولية، ليس واجبا سياسيا أو حتى أخلاقيا لأية دولة كانت، وحيث لأي من هذه الدولة مجموعة من الحسابات والمصالح التي قد تمنعها عن فعل أشياء من مثل ذلك.
بل ينزاح لأن يكون سؤالا في المضمون الروحي والالتزام الأخلاقي للديمقراطية الغربية، في وعيها لنفسها وللعالم من حولها، وبالتالي لدورها الحيوي والمركزي في كل ما يجري في العالم. أي أن السؤال لا يتعلق بالسلوك السياسي والعسكري الواجب على أية دولة ديمقراطية/غربية أن تتبعه في مواجهة الدكتاتوريات الدموية التي مثل نظام الأسد، حيث يمكن لحسابات ما أن تمنعها، بل هو سؤال عن العوائق النفسية والثقافية والسياسية والبيروقراطية التي كان يمنعها من ممارسة أبسط السلوكيات والخطوات الحقوقية/الأخلاقية تجاه مجزرة مفتوحة مثل المجزرة التراجيديا السورية، منذ عقد كامل وحتى الآن! عن الإجراءات والسياسات التي كان يمكن اتباعها بالحد الأدنى، تلك التي ما كانت تكلف شيئا قط، وفي حيز شديد البداهة، يتعلق بالالتزام الحقوقي والأخلاقي تجاه مجتمعات تواجه محقا مرئيا.
ثمة الكثير من التساؤلات الفرعية التي يمكن أن تنفرز عن ذلك، وعلى رأسها سؤال مركزية قرار المنظومة الغربية.
فإذا كانت دول مثل فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة لا تستطيع أن ترفع مثل تلك الدعوة ضد النظام السوري، لواجبات ومحاذير تتعلق بالتوازنات والمصالح التي تربطها بدولة مثل روسيا، التي تُعتبر حامية للنظام السوري؛ فلماذا لم يكن لدولة أوربية صغيرة، مثل الدنمارك أو اللكسمبرغ أن تفعل ذلك؟ هذه الدول التي ليس من شيء قد يمنعها من فعل ذلك قط، لو التزمت بالحد الأدنى من الواجب الأخلاقي والحقوقي. بالتالي يحق للمتابعين السؤال حول حقيقية وجود مركز سياسي ما لهذا الغرب، يمنع جميع أعضاء منظومته من ممارسة هذه السلوكيات التي لن تكلف شيئا! وإلا لماذا هذا الإجماع المريب على عدم ممارسة بداهة ما بالحد الأدنى، وغير مكلفة!
يُطرح هذا السؤال الأخلاقي والحقوقي على دول المنظومة الغربية الديمقراطية لا على غيرها. لأن المسألة الحقوقية والأخلاقية أولية وتأسيسية بالنسبة لهذه المنظومة لا بالنسبة لغيرها، كما تدعي هي نفسها على الأقل، وكما هو بنية نظامها السياسي والقانوني والثقافي حقيقة.
فالغرب الديمقراطي يُعرف نفسه بناء على ذلك الخيار الحقوقي، ويعتبره ميزته الاستثنائي في كامل الكون. فالمنظومة الأخلاقية والحقوقية التي أنتجها الغرب على شكل دول ومؤسسات وقيم عليا، اعتبارا من أواسط القرن الثامن العشر، هي التي رسمت صورة هذا الغرب وهويته ومركزيته الإنسانية، وبالتالي هي التي أنتجت هذه الموقع القوي والمركزي للغرب في المشهد الإنساني.
لا يشكل السؤال الأخلاقي في الغرب راهنا مجرد نقاش في القضايا الثقافية والروحية فحسب، بل يتسرب لأن يكون نقاشا حقيقيا وواضحا في مصالح وموقع هذا الغرب
المسألة الأخلاقية في الغرب، بالذات منها الالتزام بالحقوق الأولية للإنسان، كانت الجوهر المؤسس والمفرز للحداثة السياسية والاجتماعية والمعرفة والعلمية، وبالتالي المنتجة لمؤسسات الدولة الديمقراطية ونُظمها، وكل ما يخطر على البال من أدوات القوة العالمية، التي أنتجت هذا الغرب القوي والمتفوق على المستوى العالمي. هذا الموقع وتلك القوة التي فرضت على هذا الغرب مجموعة من الالتزامات والقيم، حسب ما بُني وتفوق على أساسه، أي المنظومة الأخلاقية لحقوق الإنسان.
لم تكن تلك القوة والمركزية الغربية التي انفرزت عن المنظومة الأخلاقية مجرد قيم ومبادئ عُليا فحسب، بل كانت إنتاجا فعليا للقوة المحضة. فدول مثل فرنسا والمملكة المتحدة أصبحت قوى حاكمة في المنظومة الدولية، ولم تصبح دول أكبر حجما وسكانا مثل الهند والبرازيل في تلك المواقع، ليس بناء على قوة الدولتين الأولتين الاقتصادية والعسكرية فسحب، بل أيضا حسب قدراتها ودورها في إنتاج هذه الحداثة الإنسانية. ومثل ذلك ثمة أمثلة لا تُحصى لأفضلية الغرب على باقي الكيانات العالمية، بناء على العلاقة الصميمية والتداخلية مع المنظومة الأخلاقية والحقوقية مع القيم الإنسانية العُليا.
لا يشكل السؤال الأخلاقي في الغرب راهنا مجرد نقاش في القضايا الثقافية والروحية فحسب، بل يتسرب لأن يكون نقاشا حقيقيا وواضحا في مصالح وموقع هذا الغرب. إذ ليس من شيء قد يميزه عن النمور الاقتصادية المزاحمة له سواء مثل تلك الميزة الإنسانية، ولا يحق له طلب تعاطف إنساني عالمي في مواجهته لآفة التطرف والإرهاب دون إصراره على روحه الأخلاقية تلك.
الكاتب: رستم محمود – المصدر: الحرة