اللاجئون بين تركيا وألمانيا: التكتيكي والاستراتيجي
زيارة المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل إلى إسطنبول حملت عنواناً رئيسيا لها هو: وقف تدفق المهاجرين من الشرق الأوسط إلى أوروبا.
غير أن هذا الهدف الآني الذي يحاول معالجة المأزق الذي وجدت فيه أوروبا نفسها، بعد اندياح طوفان الهاربين من بلدانهم نحوها، يمكن أن يحمل، في خلفيته التاريخية الألمانية ـ التركية، أشياء أكبر بكثير مما يظهر.
من جهتها، تعلم تركيا تماماً، أن موجة اللجوء الكبيرة من سوريا والعراق وباقي البلدان المنكوبة في الشرق الأوسط لا يمكن حلها بتجاهل أسباب النزاع هناك، وهي ما انفكّت منذ اندلاع النزاع السوري على التأكيد على أولوية إسقاط نظام الرئيس السوري بشار الأسد لبدء مرحلة انتقالية جديدة تسمح بتسوية كبرى تحدد، لا معالم سوريا فحسب، بل معالم الشرق الأوسط.
وكل ما حصل منذ بدء «الربيع العربي» يؤكد أن أطراف النزاع الكبار، باستثناء تركيّا نفسها وبعض حلفائها العرب، لا يريدون إسقاط نظام الأسد، وأن الخصوم الدوليين المفترضين لهؤلاء النظام، وبالتحديد الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، لم يكونوا جادّين في إسقاطه، رغم أن أدبياتهم السياسية منذ اندلاع الثورة السورية كانت تؤكد على «ضرورة رحيل الأسد».
المسافة بين القناعة التركية حول النزاع السوري، والقناعة الأوروبية، والألمانية خصوصاً، كبيرة، وهو واقع لم يفعل الحدث الكبير للتدخل الروسي في سوريا، غير كشفه.
جاءت أزمة اللاجئين لتدقّ أبواب أوروبا وتوقظها من عبثية سياستها التي تحمّلت تركيّا وطأتها الأكبر، في عدد اللاجئين، وفي تأثير المعالجات الأمريكية والأوروبية الخاطئة في سوريا على اشتغال آليات تفكّك النسيج الاجتماعي التركيّ مع تصاعد الدعم الأمريكي لـ»وحدات الحماية الشعبية»، ذراع «حزب العمال الكردستاني»، الذي أدّى إلى تبلور شكل دويلة كرديّة داخل الأراضي السورية (وترادف مع انتصار الرديف السياسي لـ«العمّال الكردستاني»، أي «حزب الشعوب الديمقراطي»، بعدد وازن من مقاعد البرلمان التركي) واستفحال خطورة تنظيم «الدولة الإسلامية»، وهما خطران كاسران على وحدة الأرض والأمة التركية.
قدمت ميركل في زيارتها لتركيا وعودا كبيرة حول المساعدة في ضمّ تركيّا للاتحاد الأوروبي، والموافقة على السماح لحاملي الجواز التركي بدخول دول «شينغن» الأوروبية، وإبقاء بطاريات «باتريوت»، إضافة إلى المساعدات المالية الكبيرة للمساهمة في دفع فاتورة اللاجئين داخل تركيا.
لا تبني هذه الوعود الكبيرة على فراغ، بل تقوم على علاقة تاريخية استراتيجية يمكن تلمّس بداياتها منذ الحرب العالمية الأولى حين كانت ألمانيا تدير عملياً الجيوش العثمانية، وتدربها، وتسلحها، وهو أمر أثمر علاقات فاعلة مع تولّي مصطفى كمال للسلطة، وتمظهر لاحقا بأشكال عميقة، مثل العدد الكبير للمواطنين الألمان من أصل تركي، وحجم الصناعات الألمانية الكبيرة داخل تركيا.
في استقبالها لما يعادل مليون لاجئ خلال عام واحد، وفي عدم قبول حدّ نهائي لعدد القادمين إليها، وكذلك في دعمها للحكومة التركيّة، تميّز ألمانيا، وأوروبا بشكل عام، نفسها عن الموقف الأمريكي البارد، وفي فعلها ذلك، تستشعر، عميقاً، أثر الرضّات الكبرى التي يعيشها سكّان المتوسط، من الضفتين.
سيخضع الأمر، بالطبع، لمماحكات السياسات الانتخابية، والمزاودات العنصرية، والإجراءات البيروقراطية، والمخاوف المادية المقنّعة بالدين أو غير ذلك، لكنّ أوروبا، وألمانيا التي تشكّل قلبها، أرادت ذلك أم لم ترد، مطالبة بفهم استراتيجي يقوم على أن مصالحها لا يمكن أن تزدهر حين تتدمّر بلدان فوق رؤوس ساكنيها، وعلى أن سكّان ضفتي المتوسط، كانوا، منذ بدء الحضارة، وما يزالون، يقيمون في قارب واحد.
رأي القدس