المعتقلون والمغيبون قسرياً خلال عقد من الثورة: أكثر من 105 آلاف مدني قضوا في سجون النظام ومصير مجهول لمئات الآلاف وسط جهود “إعلامية” وتقاعس فعلي

99

يستدعي الدمار العربي إعادة فكر العلاّمة ابن خلدون ونظريته حول قيام العمران البشري وسقوطه.. فصاحب المقولة الخالدة “الظلم مؤذن بخراب العمران” فسّر كيف تصل الدول إلى الظلم الطاغي وآثار هذا الظلم ومآلاته على المجتمع والناس والعمران.. في مقدمته الشهيرة، ربط ابن خلدون أطوار الدولة الخمسة بثلاثة أجيال فقط، فالجيل الأول يقوم بعملية البناء والعناية، والجيل الثاني يسير على خطا الجيل الأول من التقليد وعدم الحياد، أما الجيل الأخير فيمكن تسميته بالجيل الهادم”، وهو الجيل الذي تمثّله النخبة الحاكمة التي تحرص في سلوكها السياسي والأخلاقي على الطمع والترف، ولا نجافي الحقيقة حين نقول إن هذا الوضع يمثّله النظام الحاكم حاليا في سورية، الذي أنشأ منظومة حكم استبدادية شمولية، ويتمسّك بالحكم برغم ما حل بالبلاد من خراب ودمار وبرغم رائحة الموت التي تخيّم على كل مكان في سورية، فكل حارة بها شهيد ومعتقل ومغيّب ومختفي .. ولا يمكن الحديث عن الظلم دون الحديث عن أبرز وأكثر الملفات تشابكا وغموضا، وهو ملف المعتقلين والمغيّبين قسرا والمختطفين والمفقودين، لا يعرف أهاليهم إلى اليوم هل هم في عداد الموتى أم قابعون وراء أسوار شيّدت من حديد ليُسكت صوتهم ويقهر ويعذّب ..

ملفّ المعتقلين… غموض وتقاعس دولي ومحلي

يعتبر ملف المعتقلين السياسيين والأمنيين والنشطين بالمجتمع أكثر الملفات غموضا وقوبل بنوع من الإهمال من قبل أغلب المنظمات الحقوقية محليا ودوليا، حيث تسعى بعض الأطراف إلى مزيد ردمه بين الرفوف حتى لا تكشف حقائق صادمة دفنت مع الضحايا وظلت كابوسا يلاحق كل من عايش مشاهد القتل والتعذيب والتنكيل..

تغييب ملف المعتقلين ليس اعتباطيا بل هو ممنهج حتى تدفن عديد الحقائق التي قد تنهي برؤوس كثيرة أينعت وحان قطافها وإبعادها عن المشهد الذي تسببت في خرابه.

وتقول إحصائيات المرصد السوري لحقوق الإنسان، إنّ 968651 ألف شخص بينهم 154984 مواطنة تم اعتقالهم منذ بداية الثورة السورية في آذار 2011 من قبل أجهزة النظام الأمنية، قضى منهم أكثر من 105290 آلاف شهيد تحت التعذيب، من بينهم 16249 مدنيا: 16060رجلاً وشاباً و125 طفلاً دون سن الثامنة عشرة و64 مواطنة وثقهم المرصد السوري بالأسماء.

وتفيد إحصائيات المرصد بأن أكثر من 83% جرى تصفيتهم داخل المعتقلات في الفترة الواقعة ما بين شهر أيار/مايو 2013 وشهر تشرين الأول/أكتوبر من العام 2015، فيما تشير مصادرنا ورصدنا إلى أن ما يزيد على 30 ألف معتقل منهم قتلوا في سجن صيدنايا سيئ الصيت، فيما كانت النسبة الثانية الغالبة هي في إدارة المخابرات الجوية.

ويبلغ عدد المعتقلين المتبقين في سجون النظام 152342 شخصا بينهم 41293 مواطنة، فيما بلغ عدد المغيبين قسراً 128074 بينهم 20315 مواطنة، وبلغ عدد المعتقلين مع المغيبين 280416، في حي بلغ عدد ملفات محكمة الإرهاب 102453 ملفا.

مأساة هؤلاء الضحايا أثارت قضيتهم اهتمام شريحة واسعة من المجتمع السوري، بعد تسريب نحو 50 ألف صورة بيّنت حجم التعذيب الذي تعرضوا له، فيما لا توجد مؤشرات قريبة لإمكانية التوصل إلى حل منصف للمعتقلين، وسط غياب أي حل للأزمة السورية.

تهم باطلة..

وتشير المعطيات التي تحصّل عليها المرصد السوري لحقوق الإنسان إلى أن المعتقلين السوريين في سجون النظام السوري ومعتقلات التنظيمات المتطرفة والفصائل المسلحة، تم إيقافهم بتهم باطلة، ثم حوكموا بناء على اتهامات مزورة.

وروت عائلات بعض المعتقلين السياسيين كيف أن أبناءها زج ّبهم بين أسوار المعتقلات ولم ترتبط بهم أي اتهامات ولا مشاكل سياسية ولا توجّهات معينة، بل كانوا مواطنين مستقلين .

ومازاد حالة القلق واللوعة عدم وجود أية مفاوضات جدية مع النظام السوري بخصوص هذا الملف، حيث يواصل النظام التعتيم على هذا الملف.

تعذيب قاتل..
وكان المرصد السوري لحقوق الإنسان قد تحدّث وفقا لشهادات سجناء سابقين عن دوامة لا تنتهي من التعذيب، سواء عند القبض عليهم أو عند ترحليهم بين مراكز الاحتجاز، ووصف هؤلاء الضحايا أصنافا من التعذيب كجزء من “حفلة ترحيب” تسودها انتهاكات كثيرة عند الوصول إلى السجن والمعتقلات سواء تلك التابعة للنظام أو للفصائل المسلحة والمعارضة على حد سواء، كما يتعرض السجناء للتعذيب كل يوم من أجل “خرق” ولو بسيط لقوانين السجن، بما في ذلك التحدث مع نزلاء آخرين.

وتروي شهادات كثيرة وثّقت من قبل المرصد أو منظمات دولية أخرى الكثير من الأهوال.. تحدثوا عن الضرب بخراطيم بلاستيكية، وقضبان مصنوعة من السيليكون، وعصي خشبية، وحرق بأعقاب السجائر، في حي أُجبِر آخرون على الوقوف في الماء وتلقي صدمات كهربائية.

وكانت منظمة العفو الدولية قد لفتت إلى استعمال بعض التقنيات المستخدمة الشائعة إذ يُنادى كل واحد منهم باسم مستعار ويُربط في لوح قابل للطي يسمى “بساط الريح” ووجهه نحو الأعلى، ثم يحرك كل جزء من اللوح باتجاه الجزء الآخر، ومن ضمن التقنيات “الدولاب” حيث يُرغم المعتقلون على الجلوس على إطار عجلة وجباههم باتجاه الأرض نحو ركبهم أو كاحليهم ثم يضربون.

وتعرض رجال ونساء إلى الاغتصاب والتحرش الجنسي، كما تلقت نساء تهديدات بالاغتصاب أمام أقاربهن بهدف “انتزاع ” اعترافات منهن.

مصير قاتم
كشف محققو الأمم المتحدة، مؤخرا، عن أن مصير عشرات الآلاف ممن تم اعتقالهم تعسفاً أو أُخفوا قسرا لا يزال مجهولا، ووصفوا القضية بأنها صدمة وطنية ستؤثر على المجتمع السوري لعقود.

وتحدث هؤلاء عن تعرض بعض المعتقلين للتعذيب أو الاغتصاب أو القتل، بما يصل إلى حد ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وهو الوضع الذي سبق أن حذر من خطورته المرصد السوري طيلة عقد من التسلط والفوضى التي ازدادت حدتها بالتدخلات الأجنبية.

ودعا المرصد إلى ضرورة التسريع في إيجاد حلّ لملف المعتقلين الذي يعتبر من الملفات المنسية والقاتمة منذ 10سنوات، وكشف مصير هؤلاء وتعرية ما حدث إلى العالم.

ولم يقتصر الأمر على النظام السوري فقط، بل هناك الآلاف من المختطفين لدى تنظيم “الدولة الإسلامية” الذين يواجهون مصيراً مجهولاً ومنهم خليل معتوق وعبد العزيز الخيِّر وفاتن رجب وحسين عيسو وعشرات المثقفين والمدافعين عن حرية الرأي وعشرات الآلاف الذين يشاركونهم الظروف ذاتها والمصير نفسه، والأب باولو داولوليو والمطرانين يوحنا ابراهيم وبولس يازجي، وعبد الله الخليل وصحفي بريطاني وصحفي سكاي نيوز وصحفيين آخرين، إضافة لمئات المختطفين من أبناء منطقة عين العرب (كوباني) وعفرين، بالإضافة لأبناء دير الزور. والأمر ذاته ينطبق على حياة مئات المعتقلين في سجون هيئة تحرير الشام والمعتقلين لدى الفصائل الموالية لأنقرة وقوات سوريا الديمقراطية.

أزمة حقوق إنسان…
هذه الأوضاع المأساوية في ومعتقلات النظام والمعارضة والفصائل دفعت عديد الحقوقيون إلى مقارنتها بمعسكرات الاعتقال النازية، خاصة أن العالم يعيش في ظل ثورة الاتصالات التي كشفت عن أخطر الملفات الإنسانية في القرن 21، بينما منعت المنظمات الإنسانية من الوصول والدخول إلى الزنزانات المظلمة لمعرفة أحوال المعتقلين وأخبارهم والإطلاع على الظروف اللاإنسانية والقاسية لهؤلاء الذين يطحنهم الجوع والعراء والقهر والتنكيل.

ومن المؤسف حقا أن تصل حالة حقوق الإنسان إلى هذه الدرجة من امتهان كرامة البشر وسط تقاعس المجتمع الدولي عن تحمل مسؤوليته لإيجاد حلّ ينهي المعاناة ويقطع مع عقد من الانتهاكات والممارسات الخطيرة..

ويعتبر عديد السياسيين السوريين الذين التقاهم المرصد السوري لحقوق الإنسان أن دول العالم في العصر الحديث لم تشهد طرقا في التعذيب والاعتقال مثل تلك التي حدثت في سورية ،ويتهّم هؤلاء النظام بتعمّد إخفاء مصير المعتقلين عن ذويهم حتى يبقوا في قلق دائم ضمن سياسات تنتهك حقوق الإنسان، وتمثل أحيانا جرائم ضد الإنسانية.

حلّ سياسي منسي
وكان القرار الأممي عدد 2254 بشأن سورية قد أوصى بإجراءات بناء الثقة، تضمنت إخراج المعتقلين من المعتقلات والسجون، إلا أن ذلك لم يجد طريقا إلى التنفيذ والاستجابة، علما أن من أسعفته الظروف للخروج من أسر المعتقلات إما من خلال عمليات تبادل للأسرى بين المعارضة والنظام، أو من خلال دفع الرشاوى للمسؤولين لدى النظام ، وفق منظمات دولية.

ويظلّ ملف المعتقلين حاضرا بقوة لدى الشعب وكذلك على طاولة بعض الاجتماعات والمفاوضات الدولية برغم التقاعس “الممنهج أحيانا” سواء مع المبعوث الأممي إلى سورية أو مع ممثلي الدول الغربية، أو حتى عديد المنظمات الدولية المعنية بحقوق الإنسان..

ويبقى هذا الملف يستصرخ الضمير العالمي إن كانت لا تزال لهذا الضمير إنسانية.

ميثاق لكشف الحقائق؟

لاشكّ في أنّ ملف المعتقلين السوريين الأعقد منذ انطلاقة الثورة، حيث تتعرض الجهات السياسية من الطرفين (النظام والمعارضة) لانتقاد شديد نتيجة تقاعسها في التعامل مع هذا الملف الشائك، تزامنا مع تعنّت النظام الشديد في تناوله، واتخاذه ورقة ضغط ضد الجميع.

ومنذ شهر شباط /فبراير الماضي، أطلقت خمس منظمات سورية أُسست من قبل ناجين من الاعتقال وأهالي الضحايا وأفراد أسرهم ميثاقًا تحت عنوان “ميثاق حقيقة وعدالة”، تضمن رؤية مشتركة حول قضية الاختفاء القسري والاعتقال التعسفي في سورية.

وتواجه هذه الميثاق تحدّيات كبرى خاصة مع تعويل الأهالي على عمله.

ويسعى الميثاق الذي سبق للمرصد من محاورة أحد مؤسسيه إلى فضح انتهاكات النظام التي عجز المجتمع الدولي عن وقفها ومحاسبة الجناة، ما أدى إلى انتشار ثقافة الإفلات من العقاب، وتكرار تلك الممارسات المستمرة من أكثرية الفصائل المسلحة ومن التنظيمات المتشددة وسلطات الأمر الواقع.

ويعمل الميثاق على تقديم رؤية شاملة لموقف ضحايا الاعتقال التعسفي، والاختفاء القسري، والتعذيب، من القضايا السورية المرتبطة بقضيتهم ورؤيتهم لمستقبلها، ومواقفهم في العمل عليها، وتحديد مطالب الضحايا في هذا الإطار.

المعنيون هم؟
والضحايا المعنيون بالميثاق هم ضحايا التعذيب والعقوبة أو المعاملة القاسية أو المهينة أو اللا إنسانية وعائلاتهم، و ضحايا الاعتقال التعسفي وعائلاتهم، وضحايا الإعدام خارج نطاق القانون وعائلاتهم، وضحايا الاختفاء القسري وجميع الانتهاكات المرتبطة بتلك الجرائم وعائلاتهم.

ويتُوق مؤسسوه للوصول إلى عدالة شاملة تلبي احتياجات وتطلعات الناجين والضحايا وأفراد أسرهم هي عملية طويلة الأمد ستشمل مراحل تراكمية، لذلك أدرج أعضاء الميثاق مطالبهم بالترتيب من حيث الأولوية والإلحاح الزمني بالنسبة لهم، كـ”ناجين وضحايا وأفراد عائلات”.

ويعتبر ملف المعتقلين أحد أبرز الملفات المغيبة عن أي محادثات تدور حول سورية، رغم التصريحات المتكررة والصادرة عن المبعوثين الأمميين.

وتدعو المنظمات الحقوقية ومن أبرزها المرصد السوري لحقوق الإنسان إلى اتخاذ حكومة الأسد والمعارضة والفصائل المسلحة خطوات عاجلة وشاملة للكشف عن مصير المختفين قسرياً والمغيّبين، كما يوصي المجتمع الدولي بالضغط على الأطراف المتحاربة لمنع الانتهاكات، وإنشاء آلية لحصر المفقودين، ودعم الضحايا، بمن فيهم السوريون والأجانب المحتجزون في المعتقلات والسجون..

نقول إن سورية ستعود قوية عزيزة مهابة بعد هبّتها الشعبية المسالمة برغم كل المحن والمؤامرات، وسينتصر شعبها الأصيل ويساهم في بناء إعادة الإعمار.. المادي المعماري والبشري ويؤسس لمرحلة جديدة أنقى وسيزيل كل الأدران والأحقاد.. وسينطلق نحو مستقبل أفضل أكثر إشراقا…

إن المرصد السوري لحقوق الإنسان يواصل مطالبه بالعمل الحثيث والجاد، ليكون ملف الإفراج عن عشرات آلاف المعتقلين والمختطفين في أولوية أي لقاء سياسي أو مؤتمر أو مفاوضات، وأن لا يُكتفى بالقول فقط، بل أن تكون هناك خطوات عملية لبدء الإفراج عن المعتقلين، كذلك يحث المرصد السوري كلاً من المجتمع الدولي وبالأخص الأمين العام للأمم المتحدة، ومجلس الأمن الدولي، والمفوض السامي لحقوق الإنسان، بالعمل الفوري من خلال الضغط على النظام السوري، من أجل الإفراج عن ما تبقى من معتقلين على قيد الحياة، والعمل على إنشاء محكمة لمحاكمة الجلادين المجرمين القتلة وآمريهم، الذين انعدمت الإنسانية في قلوبهم وضمائرهم، وقاموا بقتل هذا العدد الكبير من أبناء الشعب السوري.