المواجهة المؤجلة في إدلب لحين انتهاء مهمة تركيا مع هيئة تحرير الشام
احتل الوضع في محافظة إدلب عناوين الأخبار ومماحكة السياسيين حول العالم طوال هذا الشهر. وشهدت قمة طهران في السابع من ايلول (سبتمبر) خلافات بين اللاعبين الثلاثة الكبار في المسألة السورية: روسيا وتركيا وإيران، حيث أكد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على «حق» سوريا باستعادة المحافظة وتطهيرها «الإرهابيين» أي الجهاديين الذين لا يتجاوز عددهم العشرة آلاف مقاتل مقابل 2- 3 مليون مدني معظمهم مشرد من مناطق الحرب الأخرى في سوريا. ووسط الحشود العسكرية التي جلبتها روسيا إلى الشواطئ السورية: بوارج حربية وحاملات طائلات وحملة تسخين جوي من خلال قصف المواقع المدنية مثل المستشفيات والبنى التحتية في إدلب، طلع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي بات يدير سياسته الخارجية عبر تويتر بتحذير لبوتين والأسد من عدم القيام بعمل «متهور» وهدد هو وغيره من الحكومات الغربية الضالعة بالمأساة السورية بالرد على أي محاولة من النظام لاستخدام السلاح الكيميائي وكأن استخدام أي سلاح آخر ضد المدنيين مباح ولن يتحرك العالم إلا عندما يضرب المدنيون بالكيميائي.
سر الصحوة الجديدة
وجرت حرب دعائية بين روسيا والولايات المتحدة حول من يملك السلاح الكيميائي، النظام أم المعارضة. وبدأ النظام يحشد قواته على أطراف المحافظة التي عبر عن إصرار على استعادتها واستكمال السيطرة على ما خسره خلال الحرب الأهلية التي مضت عليها سبعة أعوام. ويطرح الجدال حول إدلب عددا من الأسئلة عن الصحوة الجديدة للدول الغربية- أمريكا بالتحديد والاهتمام بمصير إدلب وقد وقفت في الصيف تراقب النظام والميليشيات الموالية له والطيران الروسي يدك معاقل المعارضة في درعا والجنوب السوري وقبلها في الغوطة الشرقية التي حاصرها منذ عام 2013. وهناك أسباب حقيقية وراء الصرخات التي انطلقت بشأن إدلب تتعلق بالجانب الإنساني، فمعظم أهالي المحافظة من المشردين الذين يعيشون في بيوت مؤقتة وأوضاعا إنسانية بائسة ودخول قوات النظام كانت تعني تعرضهم لأعمال انتقامية ومرحلة تشرد جديدة إما إلى المناطق التي أصبحت بيد النظام أو إلى الحدود مع تركيا والتي لا تريد موجة لاجئين جديدة بعدما استوعبت 3.5 مليون لاجئ منذ اندلاع الانتفاضة السورية عام 2011. ومن هنا حذرت الأمم المتحدة من تحول إدلب إلى أكبر كارثة إنسانية في العالم. ولكن النوايا الإنسانية ليست دائما ما تحرك قرارات اللاعبين في الأزمة السورية، بل مصالحهم الخاصة. ففي اللعبة السورية تلتقي وتتباين المصالح، فالغرب وحلفاؤه في المنطقة ليسوا مستعدين للقبول بانتصار بوتين ووكيله السوري بشار الأسد. كما وأن سقوط إدلب يعني بالضرورة نهاية الثورة السورية.
الاستعداد للأسوأ
ووسط تحضيرات السكان في المحافظة للأسوأ والقصف الجوي الروسي والسوري وصناعة «أقنعة» بدائية تحسبا لهجوم كيميائي بالإضافة لتخزين المواد الغذائية خاصة الخضروات المخللة، جاءت الأخبار في 17 ايلول (سبتمبر) عن اتفاق بين الرئيسين التركي رجب طيب اردوغان والروسي بوتين في منتجع سوتشي على البحر الأسود، مفاده وقف الحملة على إدلب وإنشاء منطقة عازلة حولها لفصل قوات النظام عن مقاتلي المعارضة. وسيرسل البلدان شرطة عسكرية وطائرات بدون طيار لمراقبة المنطقة العازلة ومساحتها 14-19 كيلومترا. ويجب على المقاتلين في هذه المنطقة التخلي عن أسلحتهم الثقيلة بحلول 10 تشرين الثاني (أكتوبر) أما المقاتلون التابعون لهيئة تحرير الشام المرتبطة بالقاعدة فعليهم الانسحاب كليا. وترى مجلة «إيكونوميست» (20/9/2018) أن التفاصيل عن الاتفاق غير واضحة إلا أنه تم تجنب الحرب، على الأقل في الوقت الحالي. وتعلق المجلة أن كلا البلدين روسيا وتركيا، لديهما مصلحة في تجنب الحرب. فتركيا تخشى من موجة لجوء جديدة تضاف إلى الملايين الأخرى على أراضيها. وبالمقابل تخشى روسيا أن يؤثر دعمها لهجوم عسكري قد يقتل عشرات الآلاف، على محاولاتها إقناع الغرب المساهمة في إعمار سوريا ما بعد الحرب وأن النظام السوري جاد في البحث عن تسوية سياسية ونهاية للحرب. وترى المجلة أن هامش حدوث الأخطاء قائم، فليس لدى تركيا سوى شهر كي تقنع هيئة تحرير الشام بالانسحاب كليا من المنطقة العازلة. وسيعطي فشلها الروس والنظام المبرر لشن هجوم كامل على المنطقة. هذا في ضوء الثمار القليلة التي جنتها تركيا من محاولاتها السابقة إقناع هيئة تحرير الشام. وأخبر زعيم الهيئة أبو محمد الجولاني أتباعه أن التخلي عن السلاح هو بمثابة الخيانة. وسترسل تركيا قوات إضافية إلى إدلب مع أن مواجهة التنظيم الجهادي يحمل مخاطر استفزاز هجمات إرهابية داخل الأراضي التركية. وربما حاول النظام السوري تخريب الاتفاق. فقد عبر أكثر من مرة عن تصميمه لاستعادة البلاد بما فيها إدلب التي سيعلم سقوطها نهاية الثورة السورية. ورحبت المعارضة المعتدلة بالاتفاقية ولكنها عبرت عن خشية من عدم قدرة روسيا والنظام الالتزام بالصفقة. ولديهم أسبابهم الحقيقية. فالنظام وبمباركة من روسيا قام بخرق اتفاقيات وقف إطلاق وهو منشغل باعتقال المعارضة في أجزاء البلاد الأخرى والذين استسلموا للنظام ضمن اتفاقيات العفو.
ورطة في الجو
وحتى لو استمر الاتفاق فسيجد الروس أنفسهم في ورطة للتوسط بين القوى والمصالح المختلفة في سوريا حيث تحاول وضع حد للحرب. فبعد ساعات من الاتفاق شنت المقاتلات الإسرائيلية هجوما على منشأة عسكرية. وشنت إسرائيل أكثر من 200 غارة منذ عام 2012. وقامت الدفاعات السورية بإطلاق صاروخ أرض- جو ضد طائرة إسرائيلية ولكنها أصابت طائرة تجسس روسية مما أدى لمقتل 15 شخصا كانوا على متنها. واتهمت وزارة الدفاع الروسية الغاضبة إسرائيل بالتصرف بطريقة متهورة، قائلة إن الطائرات الإسرائيلية استخدمت الطائرة الروسية كغطاء. وبعد ساعات بدا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تصالحيا وقال إن الطائرة سقطت بسبب «حادث مؤسف» وليس إسرائيل، ما يعني أن اتفاق تجنب التصادم مع إسرائيل لا يزال ساري المفعول. وبموجبه لن تتدخل إسرائيل بمحاولات موسكو إنقاذ النظام مقابل حصولها على ضوء أخضر بأن تقوم بضرب ما تريد ضربه من منشآت تابعة لإيران أو حزب الله. ولكن بطائرات من ست دول على الأقل، أمريكا وبريطانيا وإسرائيل وروسيا وتركيا وسوريا، تحلق في الأجواء السورية فمخاطر الأخطاء تظل عالية.
دور الخارج
وضمن هذا السياق ناقش المعلق جوناثان ستيل في صحيفة «الغارديان» (12/9/2018) المعضلة السورية التي بدأت بانتفاضة سلمية تطالب فقط بالإصلاح وانتهت بعسكرة وحرب شاملة باتت تلعب القوى الخارجية فيها دورا أكثر من كونها (وهذه هي الكليشة) حربا بين نظام ومعارضة. ويرى ستيل أن الاتفاق التركي- الروسي يشير إلى توسع التدخل الخارجي في الأزمة السورية وإلى الدور الذي باتت تلعبه موسكو في السياق السوري. مشيرا إلى أن شرطتها العسكرية تعمل، مثلا، في الجنوب لمنع تقدم الميليشيات التابعة لإيران من الحدود مع إسرائيل. ويرى الكاتب أن علاقة روسيا مع تركيا هي متعددة الوجوه أيضا. فهي تشجب احتلال أنقرة لمناطق في شمال سوريا بما فيها أجزاء من محافظة إدلب، لكنها تستخدم الوجود التركي هناك وتطالبها بنزع أسلحة المقاتلين الجهاديين الذين تلقوا مرة دعما من تركيا. ومهما يكن من شأن اتفاقية سوتشي فهذا أمر سنعرفه لاحقا وكذا سنكتشف نجاح تركيا أم فشلها في إقناع الجهاديين الانسحاب وتسليم أسلحتهم. وهناك لاعبون آخرون لديهم مصلحة بما يجري في إدلب، فبعيدا عن الدعوات المغلفة بالطابع الإنساني والحرص على المدنيين التي تبديها كل من فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة إلا أن الدعوة لوقف إطلاق النار هي محاولة لمنع انتصار بوتين والأسد. وهي بالضرورة محاولة لمساعدة المقاتلين على حساب معاناة المدنيين. وهذا ديدن هذه الدول التي شاركت بقوة في الحرب الأهلية منذ الانتفاضة ضد الأسد وقامت بعسكرتها عام 2012. ومولت وسلحت جماعات المعارضة بمن فيها جماعات متطرفة. ويعتقد ستيل أن هناك عدة طرق لحماية المدنيين والبحث عن تسوية سياسية يستسلم فيها المقاتلون، فقد تفاوضت الحكومة السورية مع المقاتلين في أكثر من 100 عملية استسلام خلال العامين الماضيين سمحت لآلاف المقاتلين مغادرة مناطقهم المحاصرة. واختار معظمهم الانتقال إلى إدلب. ويؤكد ستيل أن النزاع السوري لم يكن حربا بين نظام ومعارضة بل إن ملايين السوريين لا يدعمون ولا يصدقون أيا منهم وهم ساخطون على عسكرة ما بدأ كحركة مدنية سلمية تطالب بالتغيير وتحولت لحرب بالوكالة حولت فيها القوى الخارجية بلادهم ساحة للحرب بينها. ورغم تعدد هويات الفصائل من هيئة تحرير الشام وأحرار الشام وكتائب نور الدين زنكي بالإضافة للدفاع المدني (الخوذ البيض) إلا أن المعارضة هذه لم تفقد الأمل بتدخل غربي ضد نظام دمشق. ويرى ستيل أن الطريقة التي سيحصل فيها النظام على ما يريد ويحمي المدنيين هو ضمان العفو الشامل عن الجميع إلا مقاتلي هيئة تحرير الشام والتعهد بعدم تجنيد المعفى عنهم في الجيش كما حدث في اتفاقيات سابقة، إذ لا حاجة بعد إدلب لهم، فقد انتهت الحرب. وعلى الدول الخارجية: أمريكا، فرنسا أن تمنع وكلاءها من عرقلة عمليات الاستسلام. وفي المسألة السورية المؤلمة هناك معضلة كامنة كما يقول ستيل، وهي عدم استعداد السوريين الاعتراف بفشل الثورة ضد النظام وإنكار هذا يعني تعريض السوريين لأشهر أخرى من المعاناة. وفي الوقت نفسه تجد الحكومات الغربية صعوبة في تقبل فكرة انتصار الأسد بعد 7 أعوام من المطالبة باستقالته. كما أنه من الصعب القبول بمساعدة التدخل الروسي ساعد على وقف الحرب. لو قبل الغرب والمعارضة بهذا الواقع فقد تتجنب إدلب الكارثة وتبدأ مرحلة تصحيح الأخطاء.
تردد
ولا بد من الإشارة أن كل الأطراف ليست مستعدة للدخول في حرب مكلفة- باستثناء الجهاديين- الذين سجنوا وهددوا بقتل من يقبل باتفاقية تسليم مع النظام. وبدا أن العملية على إدلب إشكالية منذ البداية نظرا للخلاف في وجهات النظر بين روسيا وتركيا وعدم استعداد إيران وميليشياتها خاصة حزب الله بالدخول في حرب مكلفة كما ذكر روي غوتمان في تقرير بموقع «ديلي بيست» (14/9/2018). وقال إن غياب الحشود العسكرية السورية يشي أن النظام لم تعد لديه القوات الكافية للقيام بعملية واسعة في إدلب، حيث لا تزيد قواته بالمنطقة عن 25.000 جندي منهم 5.000 عنصر تم تجنيدهم من المقاتلين السابقين وتم إحضارهم من درعا التي سيطر عليها النظام في الصيف انشقوا بعد فترة قليلة من نقلهم إلى جبهة إدلب. وقال إن وحدة النخبة «قوات النمر» التي يقودها سهيل، أعيد نشر قواتها ونقلت حسب مصادر المعارضة إلى منطقة تدمر. ومع تراجع خطر الهجوم ومنح تركيا فرصة للحل، فهناك مشكلة تواجه المحافظة وهي إمكانية اندلاع نزاع بين الفصائل المعارضة خاصة تلك المرتبطة بتنظيم القاعدة. وربما كان بقاء هؤلاء المقاتلين مبررا لتدخل عسكري روسي مع قوات النظام. مما يعني أن قمة سوتشي لم تحسم أمر إدلب وللأبد، فهي اتفاقية تسكين ولا تعني نهاية اللعبة، فكما تقول صحيفة «واشنطن بوست» (18/9/2018) فالاتفاقية تؤجل المواجهة وتشتري الوقت لكل اللاعبين حتى يموضعوا أنفسهم ويعيدوا ترتيب أوراقهم مع حلفائهم على الأرض.
إبراهيم درويش
القدس العربي