انتصار كوباني من جهاتٍ ثلاث

12

انتصرت كوباني في معركتها الأولى والطويلة على تنظيم داعش. استطاعت إخراجه من آخر منطقة يحتلّها في المدينة والتقدّم نحو القرى المحيطة، بعدما كان التنظيم استولى على نحو 400 قرية قبل أن يحتلّ أجزاءً كبيرة من المدينة حتى لم تبقَ فيها إلا بضعة أحياء بمثابة آخر المعاقل للمقاومة.

هذا الانتصار يشكّل نهوضاً من وضع شبه ميؤوس منه إلى وضع يوشك على إتمام السيطرة، وتحويلاً للزخم المتصاعد لانتصارات «داعش» المتتالية إلى هزيمة من المتوقّع أن تتوالى مثيلاتها لاحقاً. وإضافة إلى الظروف الداعمة لهذا الانتصار، فهذه كلّها تدفع أن تكون معاني هذا انتصار كوباني ذات أبعاد تختلف رؤيتها في شكل كبير تبعاً للمواقف المختلفة.

ينظر كثيرون من السوريّين إلى هذا الانتصار على أنّه خطوة ضمن سياق ثورتهم، ربّما لأنّ مقاومة كوباني تذكّرهم بتلك التي كانت في أحياء حمص القديمة والغوطة وريف إدلب وغيرها من المناطق السوريّة، وهذا لا يذكّرهم فقط بتشابه مَنْ قاوموهم مِن نظام وقاعدة وداعش، بل بتشابه هدف تلك المقاومات في الحريّة. إلا أنّ عدم النجاح في معظم تلك الحالات، وانتهاءها بسيطرة النظام أو الجهاديّين، آلت أيضاً، في كثير من الأحيان، إلى الاعتقاد بعدم جدوى مقاومة لا يمكن الانتصار فيها، مقاومة على شاكلة حزب الله والنظام السوري. لذا، فنجاح كوباني يجسّد الأمل في إمكانيّة الانتصار وإيقاف سلسلة الهزائم تلك سواء أمام النظام أم «القاعدة» أم «داعش».

أمّا الحكومة التركيّة فتنظر إلى انتصار كوباني على أنّه خسارة لها، وربّما نتج هذا الموقف عن خسارة الجهة التي دعمتها، وإن في البدايات، ولكنّه ليس السبب الوحيد. فتركيا التي اعتادت على مصادرة الثورة السوريّة من أصحابها، وابتزازهم سياسيّاً، إضافة لابتزاز الغرب، بطول حدودها مع سورية أو بقوّة المرتبطين بها على الأرض، صدمتها كوباني هذه المرّة. ما فعلته سابقاً من تسبّب بهزيمة (وأحياناً شبه إبادة) كتائب عدة حاربت «داعش» عبر قطع خطوط الإمداد عنهم، أو عبر دفع القوى المرتبطة بها للتحالف مع التنظيم ضدّ تلك الكتائب، فشلت في تكراره مجدّداً. فمن جهة لم يكن «الرضوخ» الأميركي لابتزازها كالمعتاد بل تعمّدت طائرات التحالف العربي – الدولي إلقاء أسلحة للمقاتلين في كوباني في تحدٍ واضح للحصار الذي تفرضه تركيا، ومن جهة أخرى لم تكن تملك الأدوات المحليّة على الأرض التي استخدمتها في المناطق الأخرى.

إذاً، فرسالة تركيا التي كان مفادها أنّ «كلّ معركة لا تتمّ وفقاً لأجندتي مصيرها الهزيمة الكاسحة» تلقّت تجاهلاً من سوريّين قرّروا الاستمرار في معركةٍ من اختيارهم، ونجحوا فيها.

ما يراه الكرد مختلف قليلاً عن السابق، فهذه المدينة شهدت مأساة نزوح حوالى مئتي ألف مواطن، وخسارة الكثير من الأرواح والأموال والممتلكات، كما اعتبرت الامتحان الرئيسي الأوّل لمقاومتها. فخسارة المدينة كانت تعني احتمال وقوع سلسلة من الخسارات في باقي المناطق الكرديّة من سورية، بل تتجاوز ذلك إلى تركيا لتؤثّر سلباً على محادثات السلام بين حكومتها وحزب العمّال الكردستاني، وكانت ستُعتبر الخسارة الثانية على التوالي للكرد أمام «داعش» بعد شنكال، بما يحمله هذا التتالي من أثر سلبيّ عميق على المعنويّات. فالكرد ينظرون لانتصار كوباني من منظار إعادة اللاجئين، وإعادة الإعمار، ومنع تكرار ما حصل في مدن كرديّة أخرى. وللوحدة الكرديّة هنا حيّز خاص من المراقبة، فإن لم تتكرّر تجارب شبيهة بتلك «الوحدة الكوبانيّة» مستقبلاً، فسيكون من الصعب على هذا الانتصار وحده أن يُنسي الكرد نكباتهم طوال القرن الماضي (والتي يعيدون أسبابها غالباً إلى حالة التشرذم والشقاق بينهم).

وهذه الوحدة ليست وحدة دول كما في الحالة العربيّة، فليس للكرد دول بعد، كما أنّها لا تشبه حالة الوحدة الشموليّة للأحزاب و «صهرها» كما تفهمها بعض القيادات الديماغوجيّة (والتي بان ضررها عمليّاً في كوباني)، بل ربّما هي توحيد لرؤى الأطراف الكرديّة الرئيسة حول تعريفهم لـ «العدم»، لا توحيد تفسيرهم الأيديولوجي للعالم، أي تلك الوحدة التي بُنيت على الاتّفاق بأنّ «كوباني يجب ألا تسقط»، بغضّ النظر عمّن سيمنع سقوطها أو يحكمها مستقبلاً من تلك الأطراف.

 

اريوس الدرويش

المصدر : الحياة