«تنظيم الدولة» ودولة التنظيم

70

لا سبب للانزعاج من قرار المحكمة الدستورية العليا في مصر بقبول الطعن على المادة ذات العلاقة بتقسيم الدوائر الانتخابية، وما ترتب عليه من إرجاء للانتخابات البرلمانية، فالدولة المصرية في مرحلة إعادة تنظيم، ووقوع الأخطاء أمر وارد، خصوصاً في ظل الضغوط الشديدة التي تتعرض لها كل المؤسسات جراء الإرهاب وأعمال العنف وتسخين الشارع من جانب «الإخوان المسلمين» وحلفائهم والداعمين داخل البلاد وخارجها.

مصر التي تعيد تنظيم مؤسساتها أصبحت أيضاً تخوض مواجهة مع تنظيم «الدولة الإسلامية» بفعل ما جرى لأبنائها في ليبيا، والتهديد الذي يأتيها من الحدود الغربية. نعم قد تكون أعداد «الإخوان» كبيرة في أرجاء المعمورة، وهم شكلوا «دولة التنظيم»، وكذلك الأمر بالنسبة إلى «داعش» الذي ينتشر أعضاؤه في غالبية دول «الربيع العربي». لكن الصراع بين الدولة المصرية ودولة التنظيم في «الإخوان» و «داعش» مستمر ولن يُحسم إلا بعد وقت طويل.

ويستغرب الأميركيون ومعهم كل الجهات التي ساندت، ولو حتى معنوياً، إسقاط نظام الرئيس السابق حسني مبارك، كيف انقلب قطاع عريض من الشعب المصري على ثورة 25 كانون الثاني (يناير) 2011؟ ولماذا كره الناس، أو قل أعداد كبيرة منهم، قصة الثورات والاضطرابات وسئموا الكفاح من أجل التغيير؟ ولماذا تحول أشخاص من دعاة الثورات من النقيض إلى النقيض، ومن الحض على استمرار الثورة إلى المناداة بوأد أي إرهاصات جديدة لها؟

لم يفطن صانعو «الربيع العربي» والمخططون له والداعمون للقائمين على تحريك الجماهير أن ظروف المجتمعات العربية لم تكن مهيأة ليمر ذلك الربيع من دون كوارث. وهم روجوا دائماً في بداية الثورات العربية في تونس ومصر وسورية وليبيا وغيرها من الدول التي اجتاحتها رياح الربيع إلى أن الثورات تشهد عادة مرحلة عدم استقرار، وأن الأمور ستهدأ والنظام سيعود والأمن سيستتب، وستتحقق كل أهداف الثورات ويعم الرخاء بعدما يتوقف الفساد والإفساد، وستسود الحريات وسيتحقق العدل وسيتوقف الظلم وستزدهر التنمية، وستوزع الثروات على الشعوب بالتساوي ومن دون تمييز، وستنال المرأة حقوقها وستسود ثقافة حقوق الإنسان وستنصلح أحوال التعليم، وسيجد الشباب فرصاً كثيرة للعمل من دون أن تصدمهم المحسوبية، وستختفي ظواهر سادت عقوداً كالاعتماد على أهل الثقة من دون أهل الخبرة، وتوريث السلطة والوظائف العليا، والفتن الطائفية التي كانت الأنظمة تفتعلها ليبقى المجتمع من تحتها مهتزاً وتستقر هي فوق القمة.

عندما كان مئات الشباب والفتيات «يكنسون» ميدان التحرير أحاطت الكاميرات الميدان وصورت المشهد ونقلته الفضائيات، وانتشرت صوره على مواقع التواصل الاجتماعي. وكان المغزى وقتها إشارة إلى أن نظام مبارك رحل، وأن الثوار سيعودون إلى مواقعهم، والشعب سيبدأ من جديد بناء الدولة الحديثة «على نظافة». لم يكن هؤلاء الأنقياء يدركون أن آمالهم لا يمكن أن تتحقق، ولم يرد في أذهانهم أن صانعي الثورات ومحركي رياح ربيعهم العربي لم يبلغوهم بالحقيقة التي كانت خافية، وهي أن لا أحد من القوى التي صنعت الثورة وحرضت عليها في مصر وغيرها من الدول العربية مهيئ أصلاً للحكم، وأن رافعي الشعارات الإسلامية وحدهم سيقفزون إلى واجهة الصورة، وأن الجماهير العريضة والشباب المتحمس والحركات الثورية لم تكن بالنسبة إلى «الإخوان» سوى معاول استخدمت لهدم الأنظمة وفضح المسؤولين وحرق كل منافس على الحكم في المستقبل. وبمجرد أن وصل «الإخوان» إلى مقاعد السلطة انقلبوا على الجميع بمن فيهم تلك المعاول نفسها.

هل يعني ما جرى أن تتوقف محاولات التغيير إلى الأفضل، أو التسليم بأن الأوضاع القائمة لا يمكن أن تتبدل، أو أن ييأس الناس من تحقيق الأحلام الوردية؟ بالطبع لا، لكن الأحلام لا تتحقق أثناء النوم وإنما في اليقظة، والتنمية لن تحدث إلا بالعمل، والمستقبل يحتاج إلى البناء وليس الهدم، والأوطان تسقط بالجهل وتُبنى بالوعي. تحتاج الدول إلى إعادة تنظيم مؤسساتها وقوانينها وأساليب الحكم فيها كي تتطور وتتجاوز الماضي الذي ثار الناس ضده، لكن الحقيقة التي كشفتها رياح «الربيع العربي» أن كل الأطراف ذات العلاقة بذلك الربيع لم تساعد على أي تنظيم، وإنما أسهمت أكثر في الانفلات وإشاعة الفوضى وتزكية الصراع على السلطة، وأغرقت الجميع في تصفية الحسابات مع الماضي، وأن سوء التقدير وأخطاء التنفيذ والرغبة لدى كل فصيل في القضاء على المنافسين واللعب خلف الأبواب، كلها أمور جعلت «تنظيم الدولة» المعروف باسم «داعش» يقفز إلى واجهة الأحداث، ويتسرطن هنا وهناك، ويمتد ويتسرب ويتشعب ويسيطر على أراض وأحياء ومدن وربما دول. مصر تحتاج إلى وقت حتى تعيد تنظيم أمورها، ويستعيد الاقتصاد عافيته والأمن قوته والمجتمع تماسكه، لكنها لا تستطيع الصبر على دولة التنظيم لدى «الإخوان» أو «داعش».

 

محمد صلاح

المصدر : الحياة