حكايات المعتقل – يكتبها غسان الجباعي على حلقات – الحلقة 5
كنا قطيعاً غير متجانس من المثقفين وأشباه المثقفين والبسطاء. وكان الصمت الجنائزي طقساً لا تعلم من اخترعه أو فرضه.. لا صوت فيه غير صوت الحراس ووقع أحذيتهم الثقيلة. عنابر لا أحد يعلم كم عددها، تحوي ما يزيد على عشرة آلاف روح بشرية، لا تسمع لها حفيفاً أو نفساً أو نأمة. كنا نشم الروائح الكريهة التي تملأ المكان. رائحة سجن تدمر التي لا تنسى.. رائحة الناس المحترمين الممزوجة بالعرق والعفونة والوسخ. وكنا نسمع بين الحين والآخر دربكة أقدام تشبه صوت قطيع من الثيران المطاردة, ولم نكن نشعر بعدها حتى بحركة بسيطة تحدث هنا أو هناك.. وفي الليل كان لا بد أن نسمع بين حين وآخر، أصوات عواء الذئاب الممطوطة التي تذكّرنا بوجودها:
«قـيــ…ف.. قـيـ… ف.. قيــ…. ف»
كان ذلك الطقس يعني الكثير للحرس ورئيس الحرس، أما نحن فقد تعودنا ولم يعد هذا يعني لنا شيئاً.. ما لم نتعود عليه أبداً هو ما كان يحدث عند الهزيع الأخير من كل ليلة..
كان يسود نباح الكلاب البعيدة.. كلاب الفيافي الواسعة ونداء الصراصير، تقطعه قبل بزوغ الفجر، جلبة غامضة وصليل أقفال وأبواب حديد تفتح وتغلق بسرعة، وقراءة أسماء ما، يتلوها صمت طويل مريب، ما تلبث أن تخترقه حناجر المحكومين بالإعدام هاتفة: الله أكبر.. الله أكبر.. ثم يعمّ سكون الموت الجليل، ممزوجاً بالقلق والغضب والعجز.. كنا نعرف عدد المحكومين بالإعدام من تكبيراتهم.. وقيل إن أصواتهم كانت تصل إلى كل أرجاء البلاد.. لكننا في الفترة الأخيرة لم نعد نسمع حتى هذا التكبير.. باتوا يكممون أفواههم قبل التنفيذ، كي لا نسمع أصواتهم..
لم يكن أحد منا محكوماً بالإعدام. كنا نحن سكان المهجع 6 على ما أذكر، مدللين ومميزين. فنحن معارضة يسارية وهم شياطين، ولذلك كانوا يكتفون بالدوس على رؤوسنا فقط دون قطعها!.. وكنا نعلم أن الطريق طويلة والمصير مفتوح على المجهول. وكي لا نشعر بالخواء ونفقد الأمل سريعاً، طالبنا الإدارة بتزويدنا بالكتب. وعندما رُفض طلبنا خطرت لنا فكرة طريفة: أن نعتمد على أنفسنا، ويفرغ كل منا ما في جعبته من معرفة وذكريات؟ كنا باقة من الاختصاصات المتنوعة الغنية: كتاباً وصحفيين وأطباء ومحامين وعمالاً وفلاحين وضباطاً ومهندسي مدن وبواخر وكهرباء، أساتذة جامعات واقتصاديين ومبدعين في المسرح والسينما والأدب والرسم والنحت.. وبدأنا نجتمع كل ليلة بعد العشاء مثل كومة من الثياب حول واحد منا، كي نستمع إليه وهو يحدثنا في اختصاصه، أو يستعيد شفوياً، كتاباً جميلاً أو رواية قرأها ذات يوم. وما أكثر الروايات والقصص التي اخترعناها وأعدنا تأليفها من جديد. روايات عربية وعالمية ارتجلناها بشكل جماعي، فاختلط فيها الخيال بالحقيقة وتبدلت شخوصها وأحداثها حتى أصبحت روايات من الأدب الغرائبي. ثم اقتربنا أكثر فأكثر من عواطفنا وذكرياتنا الخاصة الحميمية، وبدأنا نتحدث عن تجاربنا مع المرأة والحب والأمكنة.. كان الحديث ممنوعاً بعد الثامنة مساء، وكنا مضطرين للتحدث همساً تقريباً. وأذكر أن أحد الحراس كان يتنصت علينا من خلال فتحة السقف، عندما كنت أقص أول تجربة لي في الحب، وأنا في الصف الخامس الابتدائي. وما إن سلط الحارس ضوء فانوسه علينا حتى صمت الجميع، وصرخ الشاويش: «انتبييييه. تهيأ» ووقفنا..
مين ها الجحش يلي كان طالع صوتو.؟
ورغم أنني لم أكن جحشاً، رفعت يدي بعد تردد, فأمرني بالوقوف تحت الكوة على قدم واحدة..
شو! عامل لي حكواتي!!
صمتُّ.. أمرني أن أتابع الحكاية وأنا أقف تحت الكوة في مشهد مسرحي، على قدم واحدة، وفانوسه يضيء رأسي وكتفي.. وكان عليّ أن أقرر: إما أن أتابع الحكاية الغنية بالأحداث، أو أرفض الأمر وأنام ليلتي في الزنزانة المغمورة بماء المراحيض عقوبة لي. وما لبثت أن ابتسمت واخترت متابعة الحكاية. ولكنني اختلقت حوادث مروعة، سرعان ما أدت إلى موت الحبيبة التي لم تزل في الصف الرابع الابتدائي، كي أنهي حكايتي الغبية بأسرع وقت ممكن..