حوارات موسكو وعقبات الحل السوري

51

لم يشترط المعارضون «المعتدلون»، الذين ذهبوا إلى اجتماعات «منتدى الحوار» السوري ـ السوري في موسكو، الإفراج عن رفاقهم: عبدالعزيز الخير ورجاء الناصر، القياديين في «هيئة التنسيق»، ولؤي حسين رئيس «تيار بناء الدولة»، كشرط للمشاركة في الحوار مع وفد النظام، وحتى انهم لم يأتوا على ذكرهم خلال الاجتماعات. بل إن وفد النظام عبّر عن غطرسته برفضه استلام مجرّد قائمة تتضمن أسماء معتقلين للبحث في الإفراج عنهم، إضافة إلى موقفه المتعلق بحصر السلاح في يد الدولة، والقوى المسلحة «المقبولة» منها، ما يشمل «حزب الله» وأخواته من الميليشيات العراقية! وبالنتيجة فقد انتهت هذه الاجتماعات، التي استمرت أربعة أيام، من دون بيان ختامي، ومن دون نتائج، وحتى من دون دراما، وكأنها لم تكن، وهي النتيجة التي توقعها كثيرون سلفاً.

عموماً، لا أحد يعرف سبب إصرار القيادة الروسية على عقد مثل هذا «المنتدى»، مع معرفتها بكل ذلك، وما إذا كان غرضها مجرّد الاشتغال على بلبلة المعارضة، أو إنها أرادت عقده لإنقاذ ماء وجهها، بعد أن تورّطت، وبغضّ النظر عن نتيجة اللقاء. بيد أنه، وفي كل الحالات، فإن هذا الحدث شكّل هزيمة للديبلوماسية الروسية «البوتينية»، فضلاً عن أنه بيّن بجلاء ضعف صدقية القيادة الروسية، وقصور ادراكها لمصالحها في المنطقة، وانحسار الدور الروسي، حتى في المسألة السورية.

وفي الواقع فإن مصدر هذا الإخفاق ينبع، أولاً، من كون روسيا طرفاً مشاركاً، وبشكل فعال، في الصراع السوري، من خلال مساندتها لنظام الأسد، طوال الأعوام الأربعة الماضية، بالوسائل الديبلوماسية والسياسية والعسكرية والاقتصادية. وثانياً، فإن هذا الإخفاق هو انعكاس طبيعي لضعف روسيا، ومحدودية قدراتها، وعزلتها، وهزال مكانتها، على الصعيدين الإقليمي والدولي.

والحال، فإن القيادة الروسية في مبادرتها، وفي أجواء المناخات التي فرضتها على المتحاورين في موسكو، تعمدت أخذ النقاش نحو قضيتين أساسيتين: أولاهما التركيز على البعد الإنساني، لإدراكها أهميته وثقله، بالنسبة الى السوريين، بعد كل الاهوال التي ذاقوها، مع مصرع حوالي ربع مليون منهم، وتشريد حوالي نصفهم، فضلا عن تدمير عمران مدنهم. وثانيهما، التركيز على خطر الجماعات الإرهابية المتطرفة، وعلى المصلحة في التساوق مع الجهد الدولي للقضاء على هذه الجماعات، باعتبارها تهدد وحدة سورية، أرضاً وشعباً، وتسعى لتقويض دولتها.

هكذا بدا واضحاً ان الروس في هذين الجانبين، إذ يشتغلون على حرف النقاش عن مساره المفترض والمتعلق بإيجاد هيئة حكم انتقالية، ذات سلطات تنفيذية كاملة، وفقاً لمنطوق إعلان «جنيف-1» (2012)، يشتغلون في الوقت ذاته على تجديد حياة النظام، واضفاء الشرعية عليه، وتبرئته من المسؤولية عن كل الأهوال التي اختبرها السوريون في الأعوام الأربعة الماضية، نتيجة اعتماده الحل الأمني، واقحامه الجيش في قتال السوريين، ناهيك عن تحويله البلد الى ساحة صراع مفتوحة للميلشيات التابعة لإيران، وتالياً للجماعات الإرهابية المتطرفة، كـ «داعش» و»جبهة النصرة» وأشباههما.

بيد أنه، وبغض النظر عن طبيعة ومحدودية الدور الروسي، والتحفظات على الأطراف المدعوة، والأسس التي قامت عليها الدعوة، والأغراض التي انيطت بالحوار في هذا المنتدى، فإن اخفاق هذه الاجتماعات يرجع إلى الأسباب الآتية:

أولاً: رفض النظام بالمطلق لأي مساس برؤيته لسورية من كونها بمثابة ملكية خاصة، وفقاً لشعار: «سورية الأسد إلى الأبد»، إذ أنه من الأساس يعتبر مطالبة الشعب السوري، أو غالبيته، بالحرية والكرامة والمساواة نوعاً من التجرؤ غير المقبول، والتطلّب غير المشروع. لنلاحظ، في هذا الإطار، أن النظام مستعد لإبداء مرونة في كل شيء، بما يتعلق بتشكيل الوزارة، وإعادة انتخاب مجلس الشعب، وحتى اجراء تعديلات دستورية، لكنه لا يقبل البتّة أي مسّ بمكانة الرئاسة ومستلزماتها، أي الدولة الأمنية (قطاعات الجيش والوحدات الخاصة وأجهزة الاستخبارات).

ثانياً: منذ بداية الثورة السورية، قبل أربعة أعوام، اعتمد النظام «الحل الأمني» حصراً، حيث واجه المتظاهرين في الميدان وبرزة والمزة والقابون ودوما في دمشق وبستان القصر في حلب ودرعا القديمة واللاذقية والرستن بالهراوات والرصاص، وفض اعتصام ساحتي «النواعير» في حماه و»الساعة» في حمص بالرصاص والدبابات، وكان متوسط عدد ضحاياه في الأشهر الستة الأولى حوالي 600 قتيل شهرياً. وبعد ذلك أقحم النظام الجيش، بطائراته ومدفعيته ودباباته ووحداته الخاصة في الصراع، كأنه في حالة حرب (ضد شعبه)، ما أدى إلى حصول بعض الانشقاقات، ونشوء ظاهرة «الجيش الحر»، وبالتالي تدهور الوضع إلى الصراع المسلح، مع كل التداعيات الناجمة عنه، على الطرفين. والمعنى من ذلك أن النظام رفض مختلف الحلول السياسية السلمية، بسبب رفضه حق الشعب السوري في تقرير مصيره، ورفضه اجراء أي تغيير يفضي الى تغيير النظام والتحول نحو الديموقراطية. وللتذكير فإن جلسة الحوار اليتيمة، لـ»مؤتمر الحوار الوطني»، الذي كان نظمه النظام في فندق «صحارى» (تموز/يوليو 2011)، في الضاحية الغربية لدمشق، وافتتحه فاروق الشرع، نائب الرئيس السوري، لم تستأنف في جلسة ثانية. وهذا ينطبق على الدستور الذي جرى تعديله (2012)، من دون ان يلحظ التغيير المنشود، والذي جرى فيه تركيز الصلاحيات في يد الرئيس، وتمكينه من ولايتين اضافيتين، بعد 14 عاماً في الحكم!

ثالثاً: بسبب تعنّته، واعتماده الحل الأمني حصراً، والتحول نحو الصراع المسلح، وطول أمد هذا الصراع، فقد ازداد وتعمّق اعتماد النظام على إيران، والميلشيات المدعومة من قبلها، ويأتي في هذا الإطار «حزب الله»، وبعض الميلشيات الطائفية العراقية («كتائب أبو الفضل العباس» و»عصائب الحق» و»فيلق بدر»)، هذا إضافة إلى وحدات من «الحرس الثوري» الإيراني. بالمحصلة فإن وجود هذه القوى في سورية، ومشاركتها في الدفاع عن النظام، رفعت أسهمها في القرار السوري، بخاصة بعد التراجع الكبير في قدرة الجيش النظامي، وفقدان النظام السيطرة على أجزاء كبيرة من الأرض السورية. على ذلك فإن القرار السياسي بشأن مآل الأحوال في سورية لم يعد بيد النظام وحده، وربما لا نبالغ إذا اعتبرنا أن الثقل الأساس في القرار بات في يد النظام الإيراني.

رابعاً: لم تعد الأوضاع في سورية، تبعاً لكل ما تقدم، بيد النظام السوري ولا بيد المعارضة، لا سيما ان أياً منهما غير قادر على الحسم ضد الآخر، بواسطة الصراع المسلح. هكذا، أضحت سورية بمثابة ساحة صراع مفتوح بين أطراف عربية وإقليمية ودولية، لا سيما مع فقدان النظام السيطرة، وانتهاء صلاحيته، وفقدانه شرعيته بعد كل ما جرى، ومع إخراج الشعب السوري من المعادلات السياسية، نتيجة تشرد معظمه، وتمزق ارادته، وضعف إطاراته المعارضة.

على ذلك، لم يعد ممكناً الحديث عن تسوية في سورية من دون توافر إرادة عربية وإقليمية دولية، تضغط، بشكل جدي وحاسم في هذا الاتجاه، وتفرض الحل الممكن، والعادل ولو نسبياً، وفق منطوق اعلان «جنيف – 1» (2012)، والذي يتأسس على وقف الصراع المسلح، وتشكيل هيئة حكم انتقالية ذات سلطات تنفيذية، تحفظ وحدة سورية ارضاً وشعباً، وسيادتها، وتكفل إقامة حكم مدني ديموقراطي، يساوي بين مواطنيها من دون أي تمييز بينهم. وهو الحل الذي يضمن التأسيس لإجماعات وطنية جديدة للسوريين، وتسهيل عودتهم إلى مدنهم وقراهم وبيوتهم، والتحرر من التدخلات الخارجية بكل أنواعها، وعزل الجماعات الإرهابية، والتخلص منها.

القصد، أن ما جرى في موسكو، أو ما سيجري في غيرها، لن يؤدي إلى نتيجة طالما أن هذه المعادلات بقيت قائمة، وطالما ان القوى الدولية والإقليمية والعربية ما زالت غير حاسمة في تعاملها مع الموقف السوري، وضمنه موقفها في ترجمة بيان «جنيف1»، إن بسبب حيرة البعض أو ضعفهم او انتهازيتهم، أو بسبب سياسة الانكفاء التي تتبعها الإدارة الاميركية الحالية، سواء لاعتبارات أميركية، او لاعتبارات إسرائيلية، نابعة من فكرة مفادها أن «دعوا العرب يقتلون أنفسهم بأنفسهم».

 

ماجد كيالي

المصدر : الحياة