«داعش» بعد عين العرب: تباين في تقديرات «الهزيمة»
برز خلال الأسبوع الماضي تباين كبير بين التقدير الأميركي لنسبة الخسارة الجغرافية التي مُني بها تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» – «داعش» وبين التقدير العراقي.
واعتبر الأميركيون أن «داعش» خسر واحداً في المئة فقط من الأراضي التي كان يسيطر عليها، بينما رفع العراقيون النسبة إلى ما يتجاوز الأربعين في المئة.
وبالرغم من أن الهوة الشاسعة بين التقديرين تطرح الكثير من التساؤلات عن سبب هذا الاختلاف الهائل، وعما إذا كان يتعلق بسوء التقدير، أم يتعداه إلى سوء النيات، إلا أنّها تؤكد أمراً مهماً، وهو أن تقييم نتائج الحرب ضد «داعش» ما زال مبكراً، لاسيما أن التجارب في الفترة الماضية بيّنت أن سياق الأحداث لا يخلو أحياناً من مفاجآت غير متوقعة.
واستحوذت تغطية الحرب في مدينة عين العرب (كوباني) شمال سوريا، برغم مساحتها الصغيرة نسبياً التي لا تتعدى خمسة كيلومترات مربعة، على اهتمام إعلامي غير مسبوق. ووصف وزير الخارجية الأميركي جون كيري، أمس الأول، انسحاب «داعش» منها بـ «الأمر الحاسم»، مشيراً إلى رمزيّتها وأهميّتها الاستراتيجية لدى التنظيم المتشدد.
ويعتبر كثيرون، غيره، أن هزيمة «داعش» في عين العرب هي نقطة فاصلة في تاريخ الحرب ضده، وأن العدّ التنازلي للقضاء عليه قد بدأ بالفعل. وما عزّز من ذلك أن هزيمة عين العرب تزامنت مع إعلان الجيش العراقي تطهير كامل محافظة ديالى من أي تواجد لـ «داعش» الأمر الذي رفع منسوب التفاؤل لدى هؤلاء.
ومما لا شك فيه أن ما حدث هو هزيمة لـ «الدولة الإسلامية» الذي فشل في السيطرة على مدينة عين العرب، وخسر العشرات من مقاتليه الأجانب من بينهم قيادات كبيرة مثل السعوديين عثمان آل نازح وسلطان الحربي، ولكن السؤال الذي يفرض نفسه هو: ما مدى هذه الهزيمة وما تأثيرها على مسار الحرب ضد التنظيم المتشدد؟
ثمة معطيات عديدة في معركة عين العرب يمكن من خلال استقرائها الحصول على إشارات مهمة للإجابة على التساؤل السابق. وأهم هذه المعطيات، والتي يجري تجاهلها عمداً، خصوصاً من قبل الأميركي، أن الهجوم على المدينة لم يبدأ إلا بعد تشكيل التحالف الدولي، أي أن «داعش» تمكن من الاقتراب منها، ومن ثم اقتحام أحيائها على مرأى من طائرات التحالف التي فشلت في إنقاذها، ومن أن تكون طوال الأربعة أشهر السابقة مسرحاً لمعركة عنيفة أدت إلى تدميرها بشكل شبه كامل. وهذا يعني أن التحالف الدولي لا يمكنه منع «داعش» من الدخول إلى أي مدينة يخطط لاقتحامها (وهذا ما عزّزه الهجوم الأخير على كركوك)، وإن كانت طائراته تساهم بعد ذلك في طرده من المدينة التي يدخلها، بعد أن تكون استحالت خراباً ودماراً.
والمعطى الثاني، أن «داعش» كان يقاتل في أرض لا يعرفها، ولم يتمكن من الاستقرار عليها، بل كان يتقدم فيها ويقضم أجزاء منها مستكشفاً لها على وقع قصف الطائرات لعناصره، في وقت كانت وحدات حماية الشعب الكردية تقاتل على أرضها التي تعرف كل جزء، وكل حبة تراب منها.
ومع ذلك استغرق طرد «داعش» من الأحياء التي سيطر عليها مدة أربعة أشهر من القتال العنيف، الذي شارك فيه سلاح الجو التابع للتحالف إلى جانب وحدات حماية الشعب وقوات من البشمركة التي جاءت من كردستان العراق وبعض الفصائل من «الجيش الحر».
وهذا يطرح تساؤلات مشروعة بشأن المدّة التي سيستغرقها طرد «داعش» من بعض المدن السورية أو العراقية، كالرقة والموصل، التي يسيطر عليها منذ أشهر عدة، وبات يعرفها بشكل جيد، والأهم أنّه تمكن من إقامة تحصينات خاصة به فيها، بالإضافة إلى أنه في هذه المدن الواقعة تحت سيطرته سيكون في وضعية المدافع، وليس المهاجم؟ فكم سيحتاج طرده منها إلى وقت وتدمير، خصوصاً بعد الخبرة الكبيرة التي أكسبته إياها معركة عين العرب في حرب المدن وحرب الشوارع التي لم يسبق له خوضها من قبل.
المعطى الأخير، هو أن انسحاب «داعش» من عين العرب لم يكن عشوائياً، ولم نر أي مشاهد تشير إلى انهيار معنويات مقاتليه أو فرارهم خوفاً، بل لم نر حتى أي صورة من داخل عين العرب بعد طرده منها من شأنها أن ترمز إلى هزيمته، وهو ما أفقد الانتصار عليه في هذه البقعة الكثير من بريقه، خلافاً لما يحاول البعض التسويق له من أنه «نصر حاسم». علاوة على أن «داعش» ما زال يسيطر على حوالي 350 قرية، تشكل النسبة الأكبر من مساحة منطقة عين العرب، وهو على ما يبدو لن يتخلى عنها من دون قتال.
هذه المعطيات تضع علامات استفهام كثيرة حول نتيجة المعركة في عين العرب، وعما إذا كانت تشكل بالفعل نصراً، فضلاً عن نصر حاسم، هذا من دون الدخول في متاهات لمن سيُحتسب هذا النصر ومن سيستفيد منه ويقطف ثماره، خاصة أن معركة عين العرب كانت تعتبر في بداياتها بؤرة صراع إقليمي ودولي تتعارك فيها إرادات ذوي المصلحة، سواء الأميركي أو التركي أو السوري أو الروسي أو السعودي، وبالتالي لا يمكن اختزال نتيجتها بالنصر أو الهزيمة، لأن هذا الصراع سيجد بؤراً أخرى يتمدد إليها ويتفجر فيها طالما أن الأزمة مستمرة.
لكن، وبعيداً عن الأبعاد الإقليمية والدولية لهذا الصراع، وفي ظل ما بات يمثله «الدولة الإسلامية» من ظاهرة معقدة ومركبة، يتداخل فيها الديني والاجتماعي والسياسي والاقتصادي والعسكري، وعلى ضوء تعدد الدول التي يتواجد فيها التنظيم، سواء في مصر أو ليبيا أو اليمن أو الجزائر أو خراسان أو القوقاز بالإضافة إلى سوريا والعراق وغيرها، هل يكفي لتقييم نتيجة المعركة ضده الاعتماد على العامل الجغرافي وحده، بحيث إذا خسر مساحة من الأرض يحكم عليه أنه هُزم؟ وفي هذا السياق لا يمكن إغفال أن ما اعتُبر هزيمة لـ «داعش» في عين العرب لم يمنعه في اليوم التالي من تنفيذ عمليات نوعية ضخمة في سيناء المصرية، أو الهجوم على كركوك، كما أن عملياته في ليبيا تأخذ منحى تصاعدياً، بالإضافة إلى قدرته على ممارسة ضغوط على بعض الدول ومنعها من الانجرار بعيداً في الحرب ضده، مستخدماً في ذلك ورقة الرهائن، كما هو الحال مع الأردن واليابان.
ثم أليس من قبيل التناقض أن التسويق للعامل الجغرافي يأتي في سياق الإصرار على أن الحرب هي ضد مجرد «تنظيم»؟ فمنذ متى تحتاج التنظيمات إلى أراضٍ تسيطر عليها كي لا تفقد فاعليتها وقوتها؟ بمعنى هل الغاية من الحرب تقتصر على استعادة الأراضي من سيطرة «داعش» لمنعه من توطيد «دولته»، بغض النظر بعد ذلك عن إمكانية استمراره كتنظيم يملك الكثير من مقوّمات القوة والقدرة على تنفيذ عمليات في دول العالم، كان من بينها مؤخراً فرنسا وبلجيكا.
ويعزّز أهمية السؤال أن «داعش» كان قد طرد في العام 2010 من غالبية الأراضي العراقية التي كان يسيطر عليها، لكن ذلك لم يؤد إلى القضاء عليه، لأنه استطاع بعد عام واحد من التمدد إلى سوريا والسيطرة على مساحات شاسعة فيها، قبل أن يعلن «دولة الخلافة» ويصبح له فروع في سبع دول عربية خلال أقل من عام.
هنا نجد البعد الإقليمي والدولي يفرض نفسه علينا من جديد، لأن الاهتمام بالجغرافيا فقط في مواجهة تنظيم لا يحتاج أصلاً إلى جغرافيا، يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن حرباً أخرى سرية تجري في موازاة الحرب المعلنة ضد «داعش»، وأن أهداف الحرب السرية هي التي تظهر في تصريحات بعض المسؤولين الغربيين، وإن كانوا يدلون بها في سياق الحديث عن الحرب المعلنة، وهذا ما قد يوضح لنا سبب الهوة الشاسعة بين التقديرات المختلفة حول نتيجة الحرب على «داعش».
عبد الله سليمان علي
المصدر : السفير