«داعش» و«الجهاديون» الأوروبيون

فجّر فتى بريطاني في السابعة عشرة نفسه في العراق، ليكون أصغر انتحاري، على ما أفادت تقارير صحافية. ونشر موقع «إصدارات» الإلكتروني التابع لـ «داعش» شريط فيديو يروي فيه شاب، يقدم نفسه باسم أبو سلمان الفرنسي، نشأته في عائلة فرنسية مسيحية، ثم اعتناقه الإسلام والتحاقه بالتنظيم. ويقول بالفرنسية إنه طلب من زوجته الالتحاق به في الرقة بعدما شعر بـ «الأمان التام في الدولة المباركة التي أعطتنا منزلاً وكل ما احتجناه لتجهيزه، الحمدلله، وراتباً شهرياً».

هل كان هذان الشابان فقراء في بريطانيا أو فرنسا؟ هل كانا عاطلين من العمل؟ هل دفع العوَز آلاف الأوروبيين إلى ترك بلادهم و»الهجرة» إلى بلاد لا يعرفونها ودين لا يفقهون منه شيئاً، غير بعض ما ترجم لهم؟ هل العنف وإراقة الدماء ما يدفعهم إلى ذلك؟». هل هو الدفاع عن المظلومين والوقوف إلى جانبهم في مواجهة الديكتاتوريات؟

صدرت دراسات كثيرة في هذه الظاهرة. معظمها نفى أن يكون الفقر سبب هجرة الشباب الأوروبيين إلى «الدولة». فهؤلاء، حتى في أفقر دول القارة القديمة، يعيشون في ظل دولة الرعاية التي تؤمن لهم حاجاتهم إذا كانوا عاطلين من العمل. ولاحظت الدراسات أيضاً أن «المهاجرين» من الطبقة الوسطى. وأنهم كانوا في بلدانهم يعيشون حياة مرفهة قياساً إلى حياة أمثالهم في سورية أو العراق أو أي بلد في العالم الثالث، فضلاً عن أن المستقبل مفتوح أمامهم لتحقيق طموحاتهم، والعيش في مجتمع يعرفونه ويعرفهم، وفي ظل قوانين تحترم حقوقهم، فيما هم متجهون إلى المجهول. هل هذا المجهول يغريهم بالمغامرة؟ ربما.

واقع الأمر أن ظاهرة «الدواعش» الأوروبيين لم تنبت بين ليلة وضحاها. مثلها مثل ظاهرة «دواعشنا». «جهاديو» بلادنا (تسمية الإرهابيين في الإعلام الغربي) متجذرون في بلدانهم، خاضعون لتربية تهرب من الحاضر إلى الماضي، ولعصبيات دينية وطائفية ومذهبية، وهم نتاج طبيعي لثقافة مجتمعاتهم. أما «جهاديو» أوروبا فليسوا نتاج هذه العصبيات، عدا الذين يعيشون في غيتوات مغلقة، في فرنسا مثلاً، ويخضعون لتربية بيتية مبنية على كراهية محيطهم الذي يضطهدهم، كالمغاربة والتونسيين والقادمين من شمال أوروبا والمستعمرات. لجوء هؤلاء إلى «الدولة الإسلامية» وهروبهم من الاضطهاد مفهوم. أما الفرنسيون والبريطانيون والإسبان والهولنديون والألمان وغيرهم فجذور انخراطهم في المغامرة يجب أن تكون مختلفة بالضرورة. بعض الأبحاث تعيد هذه الظاهرة إلى اليأس والرتابة التي يعيشها الأوروبي فواقعه معروف ومستقبله معروف ومآله كذلك، لذا يستغل أي فرصة لتحقيق ذاته خارج الأطر الجاهزة. مثله تماماً مثل المغامرين الأوائل الذين عرّضوا أنفسهم للأخطار عندما غزوا البلدان الأخرى واستعمروها ونكّلوا وأبادوا شعوباً. هي ثقافة العنف المتجذرة في اللاوعي الجمعي للأوروبيين ما يدفعهم إلى الالتحاق بـ «داعش» وغيرها.

وإذا كان المستعمرون الأوائل يبرّرون عنفهم بأنه ضروري لنشر الحضارة والقضاء على التخلف، فالمغامرون الجدد يبرّرونه بأنهم يسعون إلى القضاء على الاستبداد. أي أنهم كأجدادهم يرتكبون ما يرتكبونه باسم الإنسانية. وهم في ذلك يلتقون مع حكوماتهم وأنظمتهم التي ما زالت تشرعن حروبها باسم الديموقراطية ونشر الحرية. أليس هذا ما تروّجه الدعاية الأوروبية الرسمية وغير الرسمية؟ ألم تكن الحرب على العراق للقضاء على ديكتاتورية صدام حسين؟ أليس هدف الحرب على سورية إطاحة الأسد لمساعدة الشعب السوري على تحقيق حريته؟ هل قال هولاند أو أوباما أو كاميرون أو بوش قبلهم أن سبب حروبهم هو النفط؟ هم يروّجون أنهم يدافعون عن مصالحهم. لكن لا أحد منهم يقول ما هي هذه المصالح. بل يروجون أنهم يقاتلون مع الشعوب المضطهدة.

بعيداً من الأسباب النفسية والاجتماعية التي تدفع الأوروبيين إلى الالتحاق بـ «داعش»، وقد تكون في معظمها صحيحة، هناك أيضاً سبب لا تتطرق إليه الدراسات يتلخص في أن الأوروبي ينشأ حراً ديموقراطياً وسط ثقافة استعمارية تمجّد العنف ضد الآخر.

مصطفى زين

الحياة