«داعش» والهوية السُنّية
تشكلت تاريخياً الهوية السنية لغالبية المسلمين (ما يمثل اليوم 90 في المئة تقريباً)، عبر فرز وانتخاب قررتهما مجموعة من الخصائص الجوهرية والمعرفية التي عوّمت تلك الهوية في التاريخ، وجعلتها خياراً لتلك الغالبية.
بيد أن ما يمكن ملاحظته حيال السيرورة التاريخية للهوية السنية، أنها لم تكن خيار جماعة المسلمين لمجرد اختيارات السلطة السياسية، أو حتى إكراهاتها، بقدر ما كانت أقرب إلى الصورة التي نقلتها الكافة عن الكافة عبر أجيال المسلمين وعصورهم، إلى أن أصبحت على هذا النحو الذي هي عليه اليوم.
من جهة أخرى، لم تكن المذاهب الفقهية السنية الأربعة، على هذا النحو في بداياتها، بل أصبحت كذلك من خلال فرز موازٍ للهوية السنية ذاتها. إذ كانت تلك المذاهب اختيارات غالبية المسلمين، وكان عمدة الاختيار لأصحابها (مالك والشافعي وأحمد وأبو حنيفة) نماذج القدوة العلمية والأخلاقية المتفردة في سِيَرهم من خلال ما يمكن أن نسميه القبول الطوعي بتقليدهم في اختياراتهم الفقهية.
كان هذا الاستحقاق التاريخي للهوية السنية في مجال التقليد الإسلامي العام، على حساب جماعات وفرق إسلامية أخرى كثيرة، كالشيعة، والخوارج، والمعتزلة، وغيرهم، كما اتصل بمنهجية التدوين وموسوعيّته التي حوّلت نصوص القرآن والسنة في منظومات تلك المذاهب الأربعة، إلى أحكام لا متناهية عبر تقنين فقهي وقواعد معرفية استوعبت متغيرات الحياة في العصور القديمة، وفي بيئات ومجتمعات مختلفة، الأمر الذي يكشف عن سوية عقلانية للوعي السني.
ولقد عكس ذلك التطور التاريخي للهوية السنية، مرونة وسماحة جعلتاها هي الغالبة والأكثر قبولاً على حساب الجماعات الأخرى، التي اختفت في التاريخ أو كادت، مثل جماعات المعتزلة والخوارج وغيرهم.
نسوق هذه المقدمة عن بعض حيثيات الهوية السنية، للتأكيد أن ما يزعمه البعض عن «داعش»، وما يزعمه هذا التنظيم عن نفسه، من انتماء وادعاء وتمثيل للهوية السنية عبر تحريف وتشويه مقولات بعض علماء السنة، كالعلامة ابن تيمية، لتطبيق أفعالهم الإجرامية، إنما هو مغالطة مفضوحة، وتخرصات لا يسندها الواقع.
ذلك أن الدواعش اليوم أجهل من يفهم مرامي النصوص، ومناط الأحكام، والقراءات المعرفية التي تستنبط قواعد الأحكام من الوقائع المتغيرة. فالدواعش هم أسرع الناس إلى قتل الأبرياء من مسلمين وغير مسلمين، بتأويلاتهم الضالة التي ينسبون أحكامها إلى بعض كبار علماء السنة بطريقة مقطوعة عن سياقاتها المنهجية، ومن ذلك: الاستدلال الجاهل برأي ابن تيمية من طرف الجزار الداعشي في الفيديو الذي تم فيه إحراق الطيار الأردني (معاذ الكساسبة)، إذ نقل جزار داعش دليل حكم التمثيل بالأسير (يقصد الحرق) عن ابن تيمية عبر سياق منقطع وتحريف مقصود، ليبرّر به فعل الحرق.
والحال أن المفارقة اليوم في هذا المزيج الذي تشكّل فيه «داعش»، وأعاد فيه إنتاج تأويلات الخوارج لتبرير قتل الأبرياء، إنما تعود في حقيقتها إلى عنف صنعته هوية معاصرة لمفهوم القوة الذي تأسست عليه علاقات العنف في العالم الحديث، إلى جانب ذهنية التخلّف التي تكشف عن فقر وجهل حتى عن أحوال التماثل والاختلاف التي طبعت هوية الانتماء عند نشوء فرق المسلمين في لحظاتها التأسيسية الأولى (الشيعة والسنة نموذجاً). فالهوية السياسية للخلاف بين الشيعة والسنة في بداياته، من ناحية، وتشكّله في منطقة المشرق العربي من ناحية ثانية، لم تمنع، آنذاك، من اختيارات الأفراد، حتى في العائلة الواحدة، من الانحياز الى طرف دون طرف، على عكس حالات التعصب التي تشكلت لاحقاً عبر مقولات إيديولوجية، لتمنح اليوم ادعاء تمثيل السنة للدواعش ومن لفّ لفهم، على رغم أن أفعالهم تلك هي من جنس أفعال الخوارج، كما أنها، في الوقت عينه، من جنس أفعال عصابات الإجرام الحديثة، لا سيما عبر بعض الأساليب التي شكلت أحد مصادر الدخل لـ «داعش»، والمتمثلة في التجارة بأعضاء الأسرى الذين يقعون في أيديهم، قبل قتلهم.
واليوم، إذ لا يزال كثر من «علماء» المسلمين يحجمون عن التصريح عن الهوية الإرهابية لـ «داعش»، بسرديات إيديولوجية هشة ومتهافتة، فإنهم إنما يعيدون إنتاج بعض مواقف شيوخ معروفين وقادة حركات إسلامية (الزنداني وفتحي يكن نموذجاً)، أحجموا من قبل عن التصريح برأي واضح حيال الصفة الإرهابية لتنظيم «القاعدة»، الأمر الذي سهّل قبولاً عاماً من قطاعات عريضة من عامة الناس لأفعال «داعش». هكذا يقع الالتباس لدى كثيرين في التفريق بين الهوية السنية التي ترفض أحكام القتل على الهوية، وتتشدّد في إطلاق أحكام الكفر على المسلمين من خلال شروط وموانع منضبطة، وبين أفعال «داعش» الإجرامية الذي يحرّف آراء علماء المسلمين، ويفعل أفعال الخوارج.
وبين تفاعلات واقع معقّد إلى حد الالتباس، والجرائم التي يقوم بها «داعش»، بدت الهوية السنية مختطفة لحساب خطاب متطرّف لا يزال صوته عالياً.
محمد جميل احمد
المصدر : الحياة