سريبرنيتشا/ سوريا: ما زال العالم يتثاءب
في الذكرى العشرين لمجزرة سريبرنيتشا، تموز (يوليو) 1995؛ تفترض ذاكرة تلك الواقعة الرهيبة استعادة سلسلة من الحقائق والملابسات التي اكتنفتها، قبل ذبح آلاف المسلمين البوسنيين في تلك البلدة، وأثناء الذبح، وبعده. وهذه الصيغة في الاستذكار ليست محض رياضة تتوسل الإحياء أو التكريم أو حتى تحذير الحاضر من تكرار همجية الماضي؛ بل هي، إلى ذلك كله، وجهة لا غنى عنها من أجل تمكين العدالة الانتقالية، وإحقاق الحقّ بمفعول رجعي ومفتوح في آن معاً، على نحو ينذر بأنّ إزهاق الباطل مرّة أولى لا يلغي احتمالات اقتراف الباطل ذاته، مراراً وتكراراً: المذابح التي اعتاد نظام بشار الأسد على ارتكابها في سورية، بالسلاح الثقيل والقاذفة والبرميل المتفجر والأسلحة الكيميائية، وتفرّج العالم عليها، هي المثال الراهن الساطع.
قبل تنفيذ مجزرة سريبرنيتشا، كانت صربيا قد انقلبت إلى ساحة دامية، وحقل ألغام فسيح شائك، لمآلات إعادة ترتيب البلقان على أعتاب انهيار المعسكر الاشتراكي وبدء تفكك الاتحاد اليوغوسلافي، وتلك، في عبارة أخرى، كانت ثمرة الخيارات الجيو ـ سياسية، العريضة الفضفاضة القاصرة، التي استقرّت عليها الولايات المتحدة وحليفاتها الأوروبيات. ولهذا فإنّ سياقات إنتاج مجزرة سريبرنيتشا (مثل سقوط «المناطق الآمنة»، وقصف سوق سراييفو حين اختلط الدم البشري بعصارة البندورة!)؛ كانت قد تزامنت مع اقتراب الاستحقاق السياسي الأهمّ في أمريكا (الانتخابات الرئاسية) حين تواجد الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون في النقطة الحرجة الوسطى من لعبة شدّ الحبل مع الكونغرس، والجمهوريين، والعصاة من حزبه الديمقراطي.
أثناء تنفيذ المجزرة، تُظهــــر صُور فوتوغرافــــية وأشرطة سينمائية وقوف الأمم المتحدة، وتحديداً الفريق الهولندي، مكتوفي الأيدي؛ كما أثبــت تحقيق رسمي، أجرته الشرطة العسكرية الهولندية في العام 1999، ونشرته تحت ضغط الرأي العام وأحزاب المعارضة، أنّ «ذوي القبعات الزرق كانت لديهم أحكام سلبية ضدّ المسلمين، بينما حملوا آراء إيجابية جداً حول صرب البوسنة».
وسوى ذلك، كيف تُفسّر تلك الصورة التي تظهر ضابطاً هولندياً، العقيد توم كاريمانس، يطارح الجنرال الصربي راتكو ملاديتش الخمر والقهقهة والجذل… آنذاك؟ وكيف يمكن إغفال تصريح الضابط الهولندي الثاني، رون روتن، الذي قال دون تأتأة إنّ عناصر القبّعات الزرق ساعدوا قوات صرب البوسنة على «جمع المسلمين في مجموعات من 60 إلى 70 شخصاً، وتكديسهم في آليات تحت أنظار الصرب الساخرين»؟ وكيف، أخيراً، يُفهم ما قيل بعدئذ، من أنّ بعض الأفلام الأخرى، التي توثّق تقصير أو تواطؤ الهولنديين، «تعرّضت للتلف أثناء التظهير»… في معامل وزارة الدفاع الهولندية؟
أمّا بعد افتضاح المجزرة، فقد اعتبرت محكمة العدل الدولية في لاهاي أنّ ذبح آلاف المسلمين في سريبرنيتشا كان إبادة جماعية منظمة من جانب أوّل، وأنّ حكومة صربيا تتحمل مسؤولية الفشل في منع وقوع المجزرة من جانب ثان. لكنّ القرار ظلّ ناقصاً وقاصراً، لأنه حصر صفة الإبادة الجماعية في هذه المجزرة، وتجاهل أنها لم تكن سوى واقعة واحدة ضمن «مشروع صربي متكامل لتدمير المجتمع الصربي المسلم، اعتُمدت في تنفيذه أعمال القتل والاغتصاب والتهجير الوحشي»، كما كتب مارتن شو، الأستاذ في جامعة ساسيكس البريطانية ومؤلف كتاب «ما هي الإبادة الجماعية؟».
بدا مدهشاً أن تقرّ المحكمة الدولية بمسؤولية الحكومة الصربية، وأن تمتنع في الآن ذاته عن إدانتها بجريمة الإبادة الجماعية، رغم أنّ هذا بالضبط كان جوهر الدعوى المرفوعة إلى قضاة لاهاي.
ما أدهش أكثر أنّ القــــرار نصّ، صراحـــة، على أنّ صربيا انتهكت بنود «ميثاق منع وعقاب جرائم الإبادة» ـ الذي صدر سنة 1948 للبتّ في قضــــايا الهولوكوست وإبادة اليهود، وصادقت علــــيه يوغوسلافـــيا في حينه ـ ليس بصدد منع وقوع مذبحة سريبرنيتشا فحسب، بل الفشل في القبض على راتكـــو ملاديتش، الجنرال الصربي المدان غيابياً بتهمة تنفيذ المذبحة، وتسليمه إلى القضاء.
إلى هذا وذاك، تجاهلت المحكــــمة مسؤولية قوّات السلام التابعة للأمم المتحدة، في عدم بذل أيّ جهد لوقف المذبحة حين بدأت، على الأقلّ، وليس الحيلولة دون وقوعها.
وفي مطلع العام الماضي، كان نيكولاس برنز ـ الدبلوماسي الأمـــريكي المخضــــرم، وأســـتاذ الدبلوماسية والسياسة الدولية، في هارفارد ـ قد أطلق صرخة مدوية، فــــي مقـــال نشرته «بوســـطن غلوب»: هل وصلنا في سوريا إلى برهـــة سريبرنيتشا؟ وهل يسعنا الوقوف، مجدداً، في صفوف المتفـــرجين؟ هيهات أن يتلقى برنز إجابة شافية، فالعالم الذي وقف صامتاً قبل عقدين، هو على حال الصمت ذاتها، مع… إضافة التثاؤب!
صبحي حديدي
القدس العربي