سوريان ولبناني في رأس الأسد

35

بإمكان من يقرأ البحث الصادر أخيرا بالفرنسية في باريس (عن داري سولان وأكت سود الفرنسيتين)، للكاتبين السوريين، صبحي حديدي وفاروق مردم بيك، والكاتب اللبناني زياد ماجد، تحت عنوان “في رأس بشار الأسد”، أن يبدأ من الفصل الأخير الذي يحمل عنوان الخاتمة. ففيه، دخل الكتّابُ فعلا في رأس الرئيس السوري، وتكلّموا باسمه، من خلال استخدامهم ضمير الأنا، هم الذين تصوّروا بشّارا مخاطِبا طيف والده الحائم فوق البلد المدمّر: 
“لقد فعلتُ كل شيء، يا أبي، كي أكون أهلا لأن أحمل الاسم الذي أورثتني إياه، فعلت ذلك بضمير، وأفضل مما كنتَ تتوقع أن يفعل أخي باسل نفسه. كنت تعدّه ليخلفك، لكن روحك الخالدة تجسّدت فيّ أنا، بفضل حادث السيارة ذاك الذي رفعنا، هو إلى مصاف شهيد، وأنا إلى رمزٍ حيّ لكل القيم التي كنت تعزّها (…) عندما استلمت مهامي رئيسا، اعتقد سذّجٌ، في كل أنحاء العالم تقريبا، أني سأحيد عن الدرب التي رسمتها لي… “. يتابع بشّار من ثم مقدّماً شبه جردةٍ لما أنجزه خلال سني حكمه، في سياستيه، الداخلية والخارجية، على السواء، منتهيا إلى أن الشعب بات يحبّه ويؤيده أكثر مما كان يفعل مع المرحوم والده. “الشعب الحقيقي يحبّني، بل إنه حتى يمكنني القول إنه يعبدني. لقد سمعت أخيرا مجموعةً من الشبان وهم يهتفون شعارا مقفّى أعجبني: “لقد حان الوقت، يا الله، ليأخذ مكانَك بشّار”. آسف يا أبي، لكنهم قالوا بشار، ولم يقولوا حافظ”. 
تقول هذه الخاتمة الرائعة الكثير عن علاقة الابن بالأب، والتي يوليها هذا البحث الذي اتخذ لنفسه عنوان سلسلة كتبٍ معروفةٍ تحمل كلها عنوان “في رأس…”، أهمية كبيرة. فهو ينطلق منها، وينتهي إليها في الفصول الخمسة، باستثناء المقدمة والخاتمة والملحق، التي تصنع بحثا مهما وضروريا، يتعمّق في كشف أواليات الحكم ومفاصله في سورية الأسديْن. وبقدر ما يجهد بشّار في المحافظة على إرث أبيه، بقدر ما سيسعى لاحقا إلى “قتله”، أي إلى تجاوزه والتفوّق عليه في ممارسة سياسة الترهيب والقتل والنهب والتعذيب. “أنت قتلت في حماة 20 ألفا، أنا قتلت أكثر، أكثر بكثير منك، هم يُحصونهم بمئات الآلاف. لا أخفي عليك أني نلت مساعدة الأصدقاء من كل نوع، الإيرانيين والروس على وجه الخصوص”. 
في الفصول الخمسة التي تؤلّف جسم البحث الواقع في نحو مائتي صفحة، يفكَك الكتّاب، بتؤدةٍ، كل العناصر العائلية، والقبلية، والطائفية، والاجتماعية والثقافية التي صنعت وتصنع لبّ هذا النظام، ويربطونها ببعض، لكي تتكوّن لدى القارئ صورةٌ شاملةٌ، دقيقةٌ ومغايرةٌ عما اعتاد أن يقرأ في بحوثٍ أخرى مماثلة، فنحن سنكتشف، مثلا، أن بشّار المتأثر بشخصية والده وإرثه، هو في الواقع “ابن والدته أكثر مما هو ابن والده، لذا فقد بقي متعلّقا بمفهوم العائلة كما أنشأته عليه أمّه أنيسة، هو وإخوته: العائلة متصلة أولا بجذورها في القرية – أكانت تلك قرية أبيه القرداحة أو قرية أمه بستان الباشا – ثم بالعشيرة وبالطائفة”. وسنعرف أيضا أنه اختير ليحل محل أخيه الراحل باسل، بعد ضغوطٍ مارستها الأم على حافظ الذي كان يفضّل عليه ماهر. حجّتها؟ ضرورة احترام التراتبية العائلية. 
عندما توفي حافظ الأسد، كان قد درّب وريثه على السلطة، وشرح له جيدا فلسفته في إدارة نظامه الذي استمر ثلاثين عاما، وقام على أربع ركائز: أوّلها عائلة الأسد وحلفاؤها من عائلة مخلوف التي تنتمي إليها الزوجة أنيسة؛ ثانيها الطائفة العلوية التي كسب حافظ أغلبية مشايخها وأهلها من خلال تعيينهم في مراكز المسؤولية في الجيش، والأمن، والوزارات والمؤسسات الحكومية؛ ثالثها شبكات المنتفعين، أو المبايعة كمّا سمّاها الكتّاب، أي الذين استقطبهم النظام من مختلف الطوائف والمشارب، ليشكلوا جيشا اختصاصه النهب والرشوة والفساد؛ ورابعها السياسة الخارجية التي استخدمت عنصر ابتزاز سياسي لاستجلاب الأموال. 
فهم بشّار الدرس، ومضى به إلى أبعد ما يكون. هكذا يرسم لنا الكتّابُ ملامح طاغيةٍ تمّ العمل على صورته لكي يبدو محدثا، متزوجا من امرأةٍ معاصرة، شبيها بأقرانه من الرؤساء الغربيين. إلا أن القناع هذا لن يلبث أن يسقط تدريجيا، ليبلغ ذروة العري مع انتفاضة الشعب السوري، عام 2011، وهي الانتفاضة السلمية التي سُحقت بالدم، ففضحت خواء ما يرفعه النظام من شعارات الإصلاح والممانعة ومحاربة التطرّف الإسلامي والإرهاب. وأظهرت فظاعة ممارساته بحق شعبه، من سجن المعارضين وتصفيتهم في السجون، إلى استخدام الكيميائي والبراميل، إلى استخدام الاغتصاب سلاحا ضد النساء والرجال على السواء، إلى التهجير القسري، وسلب ممتلكات المعارضين، واستخدام الشبيحة،.. إلخ. 
الابن كما الأب، مستعدّ لكل شيء، شرط بقائه أزليا في الحكم.

نجوى بركات
المصدر: العربي الجديد