«صناعة الكذب»
بات المشهد الأمني والميداني في سورية ملتبساً إلى درجة لا يمكن معها العثور على حقائق تنقل حقيقة الأوضاع، فمع دخول الأزمة السورية عامها الخامس، تعددت الجبهات، وانتشرت الفصائل المسلحة كالنار في الهشيم وسط فوضى عارمة تحجب الأنباء الموثقة والصحيحة. ومن هنا راحت الفضائيات، المتباينة في مقاربة الملف السوري، تبحث عما يمكن توظيفه سياسياً بمعزل عما إذا كان الخبر صادقاً أم كاذباً.
وعلى رغم كل هذا الخلط والتداخل، ثمة جبهة لا يمكن الاختلاف في شأن طبيعتها، والمقصود بذلك المعارك التي تخوضها وحدات حماية الشعب الكردية وبمساندة من بعض فصائل المعارضة المسلحة من مكونات الجزيرة السورية ضد تنظيم داعش المتطرف. هنا الحقيقة «بسيطة كالماء» وواضحة كـ «طلقة مسدس»، وفق تعابير الشاعر السوري الراحل رياض الصالح الحسين، فهناك من يغزو مناطق آمنة، ويعيث فيها خراباً، وفي الجهة المقابلة، يظهر مقاتلون يدافعون عن أمن مناطقهم وعن وجودهم في وجه أعداء الحياة.
في مناطق تل حميس وتل براك وتل تمر في ريف الحسكة والقامشلي، وقبلها في كوباني، حققت وحدات حماية الشعب الكردية انتصارات على تنظيم داعش. لكنّ ذلك أغاظ بعض الفضائيات الذي لجأ إلى التوظيف السياسي وتجاهل الحقائق على الأرض، مثل إحدى الفضائيات السورية المعارضة التي اتهمت المقاتلين الأكراد بحرق القرى العربية في ريف القامشلي وتهجير سكانها. فبركت هذه الفضائية تقارير على عجل، واستندت إلى بعض الشهادات الهشة كي تثبت تلك الاتهامات التي تدحضها السيرة المشرّفة للمقاتلين الأكراد الذين لم يحملوا السلاح إلا للدفاع عن أمن مناطقهم وتسيير شؤونها الخدمية والمعيشية، فانضم إليهم مقاتلون من السريان والأشوريين والعرب ممن وجدوا في داعش سرطاناً ينبغي بتره.
وبقليل من التدقيق، وبعيداً من التسييس، فإن تلك الاتهامات لا يمكن النقاش حولها إلا من باب سعي تلك الفضائية إلى «صناعة الكذب»، بهدف بلورة موقف سياسي يناسب أجندتها، ذلك أن المقاتلين الأكراد لو كانت لديهم النية في حرق وتهجير العرب لفعلوا ذلك بأولئك العرب الذين يعيشون معهم في مدينة القامشلي، سواء من المقيمين فيها أو من النازحين من مناطق النزاع مثل الرقة ودير الزور وحتى من حلب وحمص وحماة، ولهاجموا قرى «الحزام العربي»، كما يصفها الأكراد، والمتناثرة على طول الشريط الحدودي والتي يسكنها ما بات يعرف بـ «العرب المغمورين» ممن جلبهم نظام البعث من مناطق الرقة لدى بناء سد الفرات.
لكنّ أياً من ذلك لم يحصل، ثم تأتي تلك القناة لتحاول إقناع مشاهديها أن القرى العربية التي حررها الأكراد من داعش تعرضت للحرق والتهجير، وهذا الموقف العدائي تجاه وحدات حماية الشعب ليس جديداً، فهي لا تترك فرصة لتشويه سمعتها بحجة أنها تقف مع النظام. والحال أن كل ما تفعله هذه الوحدات لا يتجاوز معنى اسمها، ولكن ثمة منابر انتعشت في ظل «الثورة السورية» وارتكبت باسمها الأكاذيب، لتسرق أحلام «الثائرين».
ابراهيم حاج عبدي
المصدر : الحياة