«طاولة الأكراد»

6

أذكر جيداً في أواخر حزيران (يونيو) 2011 عندما شاركنا في مؤتمر سميراميس للمعارضة في دمشق، اتجه ميشال كيلو نحونا وهو يقول بصوت مرتفع وبلهجة المتكرم: «سأجلس اليوم على طاولة الأكراد».

بقي كيلو جالساً إلى جانبنا حتى نهاية المؤتمر الذي لم يذكر في بيانه الختامي كلمة واحدة عن الأكراد وحقوقهم، على رغم مداخلات كردية عدة حول الحقوق القومية، حيث لم يكن ميشال كيلو أو غيره يبدون أي تأثر تجاه المخاوف الكردية، فليس هناك ما يستدعي ذلك برأيهم، فمعظم المعارضين كانوا يعتقدون بأن الثورة السورية ليس بإمكانها إسقاط النظام فحسب، إنما راحوا يشرحون الفرق بين النظام والدولة، ويدعون إلى ترشيد القوة المتمثلة بالثورة ويحرصون على استهلاك ما يكفي لتغيير رأس النظام فقط، وكأنهم يقبضون على مستقبل سورية بأكمله وقد رسموا شكلها المطلوب ونفضوا منكبيهم.

خلال لقائنا بمعارض آخر هو هيثم المالح قبل الثورة وفي عام 2004 اختصر القضية وهو يتساءل كالواثق: «هل سنعطي الحقوق الثقافية لكل من لديه دبكة أو رقصة؟»

في الحقيقة كانوا وما زالوا يؤكدون لنا بمعنى من المعاني أن من يملكون القوة وحدهم لهم التأثير في المجتمع وبإمكانهم إحداث التغيير، وهذه القوة لم تكن تمتلكها المعارضة ولا الحركة السياسية الكردية آنذاك من دون استثناء. وما زلت أذكر أن مجموعة من القيادات السياسية الكردية سافرت معاً إلى دمشق فقط من أجل لقاء أحد الكتاب المعارضين. لا شك في أن اللقاء بالمثقفين والمعارضين أمر مهم، لكن المشكلة كانت في تركيز الحركة الكردية على بناء الجسور مع نخب مغلوب على أمرها وليس لديها حتى رحمة الضعفاء.

من المؤكد أن الحقوق لن تعطى لمن يملك دبكة ورقصة، خصوصاً إذا كنا نخاطب «عقلاً مستقيلاً» يبتعد من النقاش في القضايا الحضارية الكبرى وفق محمد الجابري. وأما لماذا رقصنا لعقود، فكي لا ننسى أننا نختلف كثيراً عن ميشال كيلو وهيثم المالح، وأن لدينا لحناً عميقاً مختلفاً داخل كل فرد منا، وإذا كانت قوة أنغامنا لم تتحقق على سطح الواقع في ما مضى فلأن الظروف لم تكن مهيأة لاستثمار القوة وإظهار الحقيقة.

لكن الآن وإلى جانب الأنغام الكردية بات الأكراد يمتلكون آلاف الشهداء وآلاف الجرحى وآلاف العائلات التي تنتظر عودة أبنائها من جبهات الحرب مع «داعش»، كما أكسبت هذه الحرب الأكراد أصدقاء كثراً حول العالم. والأهم أن هذه القوة التي لا يمكن لميشال كيلو ورفاقه أن يفهموها لم تغرر بالأكراد وإنما زادت من حرصهم على الهوية الوطنية والشراكة الحقيقة، وهذا ما يدفعهم باستمرار إلى البحث عن مقعد في محافل التفاوض.

عندما يقول كيلو أنه لن يسمح بإسرائيل ثانية – ويقصد الأكراد السوريين لأنهم قصموا ظهر «داعش» – فهذا يعني موافقة معارضته على إسرائيل الأولى، بالتزامن مع توجه مرشده وراعي المعارضة رجب طيب أردوغان إلى الإسرائيليين لإعادة التطبيع وإعلان الاتفاق الجديد معهم.

إن الغرور والعناد والتشبث بالرأي هي دلائل الغباء الثلاثة، والحقيقة أن هذه الأضلع المتلازمة في حربة الكثير من المعارضين لم تدفع الأكراد ليكونوا متساهلين في أهدافهم كما كان متوقعاً، لكنها جعلت من هذه المعارضة أقل قوةً واستقراراً، وأفقدتها التوازن وضيّعت عليها الفرصة في إمامة الطيف السوري كما ينبغي، فالمعارضة لم تنظم نفسها وفضلت أن تتخذ مواقفها وتصوغ قراراتها في الشكل الاعتباطي البعيد من الفكر والسياسة الواقعية.

لذا يتحدث كيلو كالأقوياء ويتوعد في لقائه الأخير «بتقسيم ظهر الأكراد» إذا قسموا سورية، في محاولة لإبراز الحرص على سلامة سورية التي غادرها نصف شعبها إلى تركيا حيث يقيم كيلو. إن كارثة السوريين الحقيقية لا تقتصر على طبيعة النظام الاستبدادي فحسب، وإنما الكارثة في هذه المعارضة التي استبدلت الفكر السياسي بصندوق النزوات التركية.

فكلما حققت القوات العسكرية الكردية مزيداً من الانتصارات في شمال سورية، تزداد انفعالات المعارضة السورية تجاه الشعب الكردي، وهذا يرتبط بالخصائص الذهنية التي تجعلهم عاجزين أمام تطورات المشهد في سورية. وتبدو لهم هذه التطورات أقوى من طاقتهم على الاستيعاب لأنها بنظر كيلو «تخالف التقاليد السياسية الكردية في العمل الوطني»، وأعتقد بأنه يقصد بالتقاليد الكردية في العمل الوطني أن يضع الأكراد سلاحهم وأن يكتفوا بتشكيل فرق الفولكلور والموسيقى ومنتديات الثرثرة للتغيير.

إن الطاولة السورية لن تبقى مقصورة على معارضة كيلو ونظام حزب البعث كما يشيع العرافون والمنجمون الأتراك، الذين خابت كل قراءاتهم للطالع السوري، فالحقيقة الكردية المتبلورة ضمن نطاقها الوطني في الشمال السوري باتت تؤرقهم وتحجب رؤاهم عن الداخل. إن ما يزعج كيلو هو أنه إذا قرر يوماً ما العودة من تركيا إلى الحاضنة السورية فليس من خيار له ولرفاقه إلا المرور من تحت الطاولة الكردية في الشمال.

 امجد عثمان
الحياة