عزل «النصرة» أم تغيير سياسي؟
من المثير للتساؤل، بل للشكوك، أن تُبرم دولتان عضوتان دائمتان في مجلس الأمن اتفاقاً تبقى معظم بنوده سريّة بالنسبة للأعضاء الآخرين في المجلس نفسه، كما بالنسبة للدول الإقليميّة، والجميع منخرطون بالملفّ. هذا النوع من الاتفاقات يتجاوز ديبلوماسيّاً العداء المفترض بين الدولتين الموقّعتين، والتحالفات (التاريخيّة) الطويلة التي تؤطِّر في المجمل ديبلوماسيّة وتحرّك كلّ منهما. بل قد يشكّل مثل هذا الاتفاق مؤشّراً على انقلابٍ في الجغرافية الاستراتيجيّة، في ما يخصّ المنطقة المعنيّة على الأقلّ، خاصّة أنّ الدولتين الموقعتين هما الولايات المتحدة، قوّة الاستقطاب الأحاديّ الدوليّ منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، وروسيا الاتحاديّة، القوّة الصاعدة بعد انهياره.
يفسّر بعض الحلفاء التقليديين للولايات المتحدة أنّ اتفاقها الأخير مع روسيا حول سوريا يؤّكد تراجع اهتمامها بالمنطقة. ربّما لأنّ المنطق المعتمد لا يوافق رؤية هؤلاء الحلفاء، ويختلف اختلافاً جذريّاً مع توجّهات سابقة، مثل تلك التي قادت إلى غزو العراق وتدمير بنيته كدولة، بدفعٍ وترحيبٍ من الحلفاء أنفسهم. ويذهب آخرون إلى أنّ الاتفاق يدلّ على ضعف الإدارة الأميركيّة الحاليّة، من دون التدقيق في طبيعة الدولة هناك وضرورة حشد مساندة مؤسسّات تشريعيّة وعسكريّة وأمنيّة، تتباين وجهات نظرها في كثيرٍ من الملفّات، بل قد يعمل بعضها على عرقلة توجّه أو قرار للرئاسة بدفعٍ من مراكز نفوذ.
السبب الأرجح هو انقلاب في الجغرافيا السياسيّة. انقلابٌ تدريجيّ ولكنّه حقيقيّ. يدلّ عليه الإصرار الأميركي الذي سبقه على إنجاز اتفاقٍ مع إيران بخصوص ملفّها النوويّ، برغم جميع الصعوبات التي واجهتها الإدارة الحاليّة داخليّاً ومن قبل الحلفاء. كما يدلّ عليه في المقابل التحسّن النوعيّ في العلاقات بين روسيا ودول الخليج.
ويتطلّب الوصول إلى هذا الاتفاق جهوداً وساعات عمل طويلة على أعلى المستويات، إضافة إلى اجتماعات الخبراء اليوميّة من الطرفين. فما الذي تمّ التفاوض حوله في هذه التفاصيل كلّها؟
ما يظهر من جبل الجليد هو نقطة جوهريّة يبدو أنّها هي التي ستحدّد مسار الصراع السوري مستقبلاً، عسكريّاً وسياسيّاً. المقصود مصير «جبهة النصرة» («فتح الشام» بحسب الاسم الجديد) وتنظيم «القاعدة» في سوريا. لقد تمّ وضع عزل هذا التنظيم معياراً للنجاح، بعدما تمّ القضاء على قائده العسكريّ وعدد من قادة الفصائل العاملين معه، بالتحديد في الليلة التي سبقت التوقيع على الاتفاق. وكأنّ الأمر جاء ورقة ضمانٍ قُدِّمت لإنجاحه.
السياق العام هو التراجع المستمرّ لـ «الدولة الإسلاميّة» وانحسار امتدادها الجغرافيّ تدريجيّاً. الأطراف كلها متوافقة على ذلك، لكنّها تتخوّف من لجوء مقاتلي «داعش» إلى «النصرة»، على عكس التخوّف السابق في أنّ عزل «النصرة» وشاكلاتها كان سيؤدّي إلى هروب مقاتليها نحو «داعش». وفي السياق أيضاً ضرورة إخراج حلب من المعادلة العسكريّة، لما لحلب من رمزيّة، ولأنّ أيّ انخراطٍ قويّ لتنظيم «القاعدة» فيها سيجعل الأمور أكثر تعقيداً على مدى طويل. ما قد يعني هنا أيضاً تحييد الميليشيات الموالية لإيران عن حلب. وما يدعم هذه النظرة حول حلب هو مجريات معركة الراموسة وفكّ الحصار وانهيار حلم «تحرير حلب» كاملةً لجيشٍ كانت «النصرة» قوامه الأساسيّ، وأيضاً ما جرى من كبحٍ لمحاولة الجيش السوري مدعوماً من إيران، من الذهاب وحيداً نحو مدينتي الطبقة والرقّة.
في السياق نفسه توجّه التدخّل التركي في سوريا نحو إخراج «داعش» من مدينة الباب، أكبر مدن شمال حلب، وما هو أصعب بكثير من جرابلس ومنبج. في حين لا تستطيع تركيا لا ديبلوماسيّاً ولا معنويّاً أن تحتوي صراحة لا «النصرة» ولا حتّى «أحرار الشام» بين القوى السوريّة التي ترافق مدرّعاتها. ما يعني أن الأمر سينتهي بنهاية التماس بين «داعش» و «النصرة»، وبأن تصبح المعادلة شمالاً وشرقاً بين الجيش السوري وتركيا وإيران و «قوّات الحماية الشعبيّة الكرديّة»، وروسيا والولايات المتحدة فقط.
كلّ القوى التي تحوي عناصر تنتمي لتنظيم «القاعدة» أو تلك القريبة من توجّهاته مدعوّة إذاً للتوجّه نحو «إمارة» إدلب، كي يصبح المشهد السوريّ أقلّ تعقيداً!
تنظيم «القاعدة» و«جبهة النصرة» وشاكلاتها هي النقطة الجوهريّة لأيّ حلٍّ يُخرج سوريا من الفوضى. وكلّ الخلافات السوريّة والإقليميّة والدوليّة تتركّز على الخيار بين أولويّة عزلها لإحداث التغيير السياسيّ أو العكس. وبكلّ الحالات، يبدو بوضوح أنّ روسيا والولايات المتحدة قد اتفقتا على خيارٍ تحاولان فرضه على جميع الأطراف.