عن تحوّلات الطبقة الوسطى في سورية
كمثيلاتها في البلدان الأخرى، لا تشكّل الطبقة الوسطى في سورية كتلة متجانسة من حيث التكوين والمنبت الاجتماعي، وهي أشبه بخليط من الموظفين والأطباء والمهندسين والمثقفين والمعلمين والحرفيين، الذين تجمعهم صفات مشتركة كالقدرة على تحصيل دخل يمكّنهم من العيش في شكل مكتفٍ وتغطية كلفة الاستهلاك الأساسية، وكونهم أكثر فئات المجتمع تقبلاً للتغيير والتجديد وتطلّعاً الى المشاركة في الشأن العام، وأقلّهم تمسكاً بالعادات والتقاليد، وإهمالاً لقيم التعليم والعمل، لكن تصاعد العنف المفرط طيلة سنوات ترك آثاراً بالغة في واقع هذه الطبقة ودورها المفترض موضوعياً.
من التغييب إلى النزوح والهجرة إلى تدهور شروط الحياة، تعددت أشكال النيل من شرائح الطبقة الوسطى السورية في ظلّ استمرار القهر والتنكيل والتدمير، فمن لم تلتهمه آلة القتل أو يختطف أو تغيبه السجون والمعتقلات، حزم أمتعته وانضمّ إلى أمثاله في أرض الشتات، ومن لم يهاجر حاول التكيّف معوزاً مع حياة النزوح في المناطق الأقل سخونة.
«إرحموا عزيز قوم ذل» هو رجاء يستحقه كثر من الميسورين الذين تآكلت مداخيلهم في ظروف استمرار الاقتتال الدموي، وفقدوا استقلاليتهم المادية وانضموا إلى ركب الفقراء، منهم من دمرت بيوتهم ومنشآتهم الحرفية وورشاتهم الصغيرة وفقدوا كل ممتلكاتهم وما ادخروه نتيجة النزوح والتهجير، ومنهم من طحنته الأزمة الاقتصادية المحتدمة وتداعياتها من ركود وانعدام فرص العمل والإنتاج والتسويق، ومنهم من بات عاجزاً عن مقاربة شروط الاستهلاك وتأمين ما يحتاجه، مع الارتفاع المتواتر في الأسعار الذي طاول ليس فقط سلع الحياة الأساسية بل السكن والنقل وتكاليف التدفئة والصحة والتعليم، ولا تغير هذه الحقيقة بل تؤكدها أحوال تزداد صعوبة لغالبية الموظفين والعاملين الذين لا يزالون يقبضون رواتبهم من الدولة.
وفي المقابل، مع ضيق ذات اليد وانعدام أي أفق للخلاص وتزايد حالات العنف من خطف وابتزاز واعتقال، خسرت الطبقة الوسطى في سورية كثراً من أبنائها الذين سارعوا إلى الفرار، في موجة صاخبة من الهجرة واللجوء إلى بلدان عربية وغربية، وهؤلاء في غالبيتهم من المثقفين وأصحاب الاختصاصات العلمية ومن المستثمرين الصغار الذين آثروا توظيف رؤوس أموالهم بعيداً من حالة التدهور الأمني، لتنتزع مكانهم وللأسف، كتلة من الأثرياء الجدد كأمراء الحرب وقادة الميليشيا ومن يدور في فلكهم، الذين لا ينتمون إلى أخلاقيات وقيم المجتمع وجمعوا أموالهم بسطوة السلاح والنهب والسلب والابتزاز، ما يضع تحدياً جديداً أمام الطبقة الوسطى لمواجهة التشوّهات الأخلاقية بحقها التي يحدثها هؤلاء، لا يقلّ أهمية عن التحدّي المتعلّق بدورها في حماية المجتمع المدني ومعالجة ما أصاب النسيج الوطني من شروخ وتشوّهات.
يقاس رقيّ المجتمعات ومدى استقرارها باتساع رقعة الطبقة الوسطى، التي تشكل محرك النشاط والاستثمار الاقتصاديين، فكيف الحال حين تتحول إلى عالة تحتاج إلى الدعم والإنفاق عليها، وكيف الحال وقد تراجعت نسبتها بعد خمس سنوات من الصراع الدامي إلى ما يقارب الـ15 في المئة من السكان، في حين أن النسبة الطبيعية لها يفترض أن تتراوح ما بين 60 و80 في المئة كي تمنح المجتمع حالة صحية وحيوية، والقصد أن الطبقة الوسطى تعتبر صمام أمان أي وطن، ومفتاح إعادة إنتاجه، فكلما اتسعت زاد تجانس المجتمع، وكلما تقلصت زادت الهوة بين أبنائه، وقد أفضى تراجع حضورها في البلاد إلى تراجع قدرتها موضوعياً على تخفيف الانقسام المجتمعي السوري، الذي بات يمزق الشعب إلى فئات متناحرة تحدوها صراعات من طبيعة إقصائية تهدّد وجود الوطن ووحدته.
هي اليوم، أو ما تبقى منها وبعد سنوات الحرب وسطوة السلاح، جماعات مشتّتة ومنكسرة ومنكمشة، وتالياً عاجزة عن الفعل وربما تكتفي بدور المتفرّج المتألم على وطن يطحنه العنف والإقصاء، هذه هي حالة الطبقة الوسطى في سورية التي يشهد لها عادة دورها في التخفيف من حدة الأزمات الوطنية، لمصلحتها في حماية السلم الأهلي والحفاظ على هياكل الدولة ومؤسساتها، ليصحّ الاستنتاج بأن تراجع حضور هذه الطبقة، وانحسار دورها الموضوعي في الصراع المحتدم، كانا أحد العوامل الكثيرة التي تضافرت لتصل بالوضع السوري إلى ما وصل إليه.
ليس غريباً أن تغيّر شرائح الطبقة الوسطى مواقفها واصطفافاتها، بل في أحيان كثيرة ينتقل بعضها بسرعة من موقع الى آخر مغاير تماماً لتوجهاته السياسية وحتى الأيديولوجية، ربطاً بما يفرضه تغيّر الواقع المعاش، والتقلبات المجتمعية الحاصلة سواء كانت سياسية أم اقتصادية، ما يفسّر في سورية حالة التشظّي السياسي والفكري التي ظهرت في صفوفها وصفوف ممثليها ولا تزال.
ومع انحسار فئات من الطبقة الوسطى لها مصلحة في الحفاظ على الوضع القائم وقد آثرت الهروب، فإن ما تبقى زاد التفافه حول النظام مع تصدّر الإسلامويين المشهد، وفي المقابل فإن كثراً ممن قادوا التظاهرات السلمية وبادروا بالدعوة للتغيير واحتلوا مواقع في المعارضة السياسية كانوا من أبناء الطبقة الوسطى وميسوري الحال، ما وسم الثورة في بدايتها ببعدها الجامع والمعتدل والنابذ للعنف والتطرف والطائفية، لكن غالبيتهم خرجت أو أخرجت من المشهد كلياً بعد أن سادت لغة السلاح، وانجرف بعضهم وللأسف إلى الاصطفاف والتخندق مع أطراف تعادي الثورة وأهدافها.
والحال، هو أمر طبيعي أن يضغط الصراع المتفاقم وجسامة المعاناة والتضحيات وضيق الفرص على خيارات الطبقة الوسطى، فيحرم ما تبقى منها إمكان الهرب بجلدها والتهرب من مسؤوليتها، وأيضاً هو أمر مفهوم أن يعقد بعض الأمل على دور لأبناء هذه الطبقة كمثقفين ومهنيين في مسيرة الخلاص، ربما للتعويض عن قصور المعارضة السياسية، وربما بسبب الثقة بضمائرهم الرافضة للعنف وتخريب المجتمع والمنحازة بداهة الى حقوق الناس وحرياتهم، وربما كرهان على روح المسؤولية العالية لديهم في معالجة النتائج المدمرة التي خلفها ويخلفها الاستمرار بمنطق القوة والمكاسرة والقهر.
اكرم البني
الحياة