لا حرب تعلو على الحرب السورية
صمتت المدافع، وعادت الحياة على الحدود اللبنانية – الإسرائيلية الى سيرتها اليومية. لم يصدر عن المراكز قرار بالحرب، ظل الاستنفار موضعياً ومن دون الوصول الى مستويات الخطر، وكأن اطراف اللعبة كانت تدرك حدود تحركها والمدى المراد الوصول اليه.
لا حرب تعلو على الحرب السورية. تلك خلاصة الحوار الإقليمي وزبدة التفاهمات الضمنية والترتيبات، وهذه هي قواعد اللعبة الجديدة في المنطقة، أما قواعد الإشتباك فقد ظلت على حالها. عملية القنيطرة، والرد عليها في شبعا. تلك كانت الهوامش المسموح التحرّك ضمنها بين فترة وأخرى قبل نهاية صلاحيتها، ولتنشيط روح قواعد الإشتباك وتعزيزها حتى لا تنساها الأطراف. وقواعد الإشتباك، لمن لا تزال لديه ذاكرة، تقع عند أطراف التجمعات السكنية والمناطق الحيوية وليس عند الشريط الحدودي.
الجديد هذه المرة، وربما هو أصل الحكاية كلّها، هو دخول إيران على خط قواعد الإشتباك، في شكل صريح وعلني، حتى صارت هي الطرف الأساسي، الضامن والكفيل، مقابل اسرائيل، وكأنّ إيران قررت أن تتحدث مباشرة مع اسرائيل وتتفاهم معها من دون الحاجة الى وكلائها في المنطقة، او بالأصالة عن أذرعها، وقد يكون ذلك أوان الترجمة الحرفيّة للتصريحات المتكررة لزعمائها بأن حدودهم الغربية صارت على البحر المتوسط عند صور.
لكن هذه الأريحيّة الإيرانية في الطرح والتقدم وإستجابة إسرائيل لإدماجها بمرونة ويسر هي مؤشر على ما هو أكثر عمقاً ودلالة من تصريحات زعمائها، هي رشح وإنعكاس لرياح مفاوضاتها مع المركز الاميركي، الذي لا يزال يملك اليد الطولى والفعالية في رسم الأدوار والحدود وفرضها على اللاعبين الإقليميين، فإيران اللانووية يمكنها رسملة تنازلها النووي باعتراف أميركي وإسرائيلي بإشهار سيطرتها الفعلية على أذرعها، شرط إدماجها في سياق قواعد الإشتباك وتحولها ضامناً لسلوك أتباعها ومشرفاً على الترتيبات، وهو أمر بات مقبولاً ومحبذاً، بل ويدخل ضمن خانة الواقعية السياسية، في ظل فوضى التنظيمات التي لا رأس لها يمكن ان يتم امساكها منه، وبخاصة أن المنطقة آيلة إلى إنفراط لم يعد بإمكان أحد تقدير شكل مصائره ومآلاته.
على ذلك فإن ما حدث في القنيطرة وشبعا لم يكن سوى عملية محدودة هدفها إشهار ولادة واقع جديد وصريح. بالنسبة الى اسرائيل لن يشكل هذا الأمر إخلالاً بموازين القوى ما دامت إيران، بالأصل، هي من يدير «حزب الله» بالأسلحة والأموال والمستشارين، وتعود اليها ثمرة أعماله، وما دامت هي التي تسيطر على النظام القائم في دمشق وتتحكم بسلوكه وتوجهاته. على ذلك فإن أركان دورها تبدو مكتملة الشروط ولم يبقَ سوى الاعتراف به حتى يتم تشريعه، وبالتأكيد فإن واشنطن وتل أبيب تدركان مدى لهفة إيران لمثل هذا الإعتراف، وتعرف طهران جيداً الثمن المطلوب لشراء هذا الاعتراف. إنه يكمن في التنازل عن المشروع النووي، وما دون ذلك كله يمكن التفاهم عليه، ضمن قواعد إشتباك وخيوط لعبة محددة، بل أن الآليات موجودة ولا حاجة لاختراع جديد فيها. غرب الليطاني منطقة منزوعة السلاح كما غرب دمشق وجنوبها، مع استمرار سلاح الجو الإسرائيلي في إجراء مسوحاته اليومية للحدود وطرق المواصلات البرية وخطوط النقل البحرية.
لا داعي اذاً لفتح جبهات جديدة. الحرب السورية تكفي لتغطية الأهداف القريبة والمتوسطة. لإسرائيل وأميركا فلسفتهما الخاصة وتقديراتهما التي يقتنعان بها. هذه الحرب ستطول إلى الوقت الذي يتم فيه استنزاف إيران وأذرعها في شكل كامل، ومن المهم تهيئة العتبات التي تضمن استمرار الإنخراط الإيراني في هذا الحريق، وفي الوقت نفسه صرف احتياطي مجهودها في الأتون السوري، بحيث لا تبقى لديها طاقة لمشاريع نووية وسواها، وإلى حين يصحو صانع السجاد من هوسه المذهبي وأحلامه الإمبراطورية يكون الزمان قد تغير، وبالنسبة الى طهران فإنها تقدم على هذا الإغراء مشدودة بالحماسة والدهشة. مجرد الاعتراف سيشعرها بالنصر ويزيد من حدة انخراطها في الأزمة، وبالأصل فهذه الحالة تتطابق مع طموحاتها. لم تستثمر إيران يوماً في تحرير فلسطين على ما تدّعي، فهي تدرك أن هذا الأمر لا طاقة لها به، بل أن السير فيه قد ينهي ليس نظامها السياسي بل البلاد برمتها.
لا حروب جديدة، بل هي أختام تضعها نيران بعض طلقات المدافع على لوائح التفاهمات بقصد تثبيتها، عبر تشبيك الميداني بالسياسي، ليتحول الامر إلى إعلان لنتائج مفاوضات صاغتها الإدارة الأميركية وإختارت بعناية أسلوب إخراجها. من يستطيع الاعتراض على ترتيبات تنهي تصادماً قد يهز إستقرار لبنان ويطيح بسلمه الأهلي؟ هي كذلك مجرد ترتيبات. كان ملموساً أن التطورات كانت برأس ثخين ومن دون ذيل، بمعنى أنها افتقدت، ليس لعدم ظهور التداعيات وحسب، بل وحتى لحساباتها، وكأن الأهداف قد حددت سلفاً، كما النتائج، شيئاً يشبه كثيراً ترتيبات المناسبات. كل شيء موضوع في مكانه الصحيح، ولا يشبه عجقة الحروب ونزق سلوك أطرافها. لا حروب على الجبهات ما دامت الجبهة السورية مشتعلة، فهي تكفي وتفيض.
غازي دحمان
المصدر : الحياة