لتكن الأقاليم السورية بداية الحل… لا نهايته
سورية باتت مناطق نفوذ. ليس تحليلاً أو احتمالاً. هناك صمت، إن لم يكن «تواطؤاً»، من أطراف محلية وإقليمية ودولية. الأقاليم تتبلور. خطوط القتال ترسم. لم يعد الأمر سراً. لم يعد إثماً يتجنب النظام اقترافه ولا هو من الكبائر يخشى معارضون اقترابه.
بل إن موالين للنظام يتسابقون في التنظير إليه. آخر الأمثلة، كان أن «مصدراً أمنياً سورياً» أبلغ وكالة الصحافة الفرنسية في دمشق عاصمة «الجمهورية العربية السورية»، بأن إخلاء وحدات الجيش مدينةَ أريحا في إدلب في شمال غربي البلاد، مرتبط بـ «تقلص هامش المناورة» المتاح أمام وحداته، وأن «إخلاء الجيش هذه المواقع يرتبط بالخطط العسكرية، وما فيها من أولويات وحسابات تفرض نفسها على متخذ القرار». وأضاف أن «اعتبارات» عدة أملت اتخاذ قرار الانسحاب أبرزها «تجنيب المدنيين المعركة أو تعريض المدينة للدمار». وتم «تجنيب» المدنيين المعركة و «حماية المدينة» من الدمار… برمي «براميل متفجرة» على أريحا وريفها بعد انسحاب الجيش منها! تناسى «المصدر الأمني» السوري ومرجعيته المحلية والإقليمية، الخطاب الذي كان ينهل منه النظام السوري لعقود وما كان حزب «البعث» الحاكم ينطق به في أدبياته ومدارسه ويلقن طلائعه وشبيبته وصحافييه وعسكرييه ومدنييه ورجال أعماله وقاعدته الشعبية إياه. نسي «الرسالة الخالدة» في بلوغ «الأمة العربية الواحدة» أصلاً وكون حدود «أوطاني في بلاد العرب» يمتد من «الشام وبغداد» إلى «مصر… فتطوان». بات الحديث الآن عن الحارة والضيعة والطائفة والتخلي عن الجغرافيا مقابل بقاء الموارد البشرية. بات الحديث عن «سورية المفيدة»، من دون تكليف الخواطر بتحديد الهوية الطائفية والوطنية والجغرافية لـ «المستفيد» مما تبقى من سورية وما إذا كان سورياً أو غير سوري وما إذا كان شريحة، طائفة، فئة أو شعباً.
من يعرف بواطن الأمور، يدرك، أن قراراً اتُّخذ من قيادة الجيش والقوات المسلحة. القرار جاء بعد طلب وزير الدفاع جاسم الفريج خلال زيارته طهران مزيداً من القوات والميليشيا بعد سيطرة المعارضة على مدينة إدلب نهاية آذار (مارس) الماضي. جاء أيضاً بعد اقتراح جاء من إيران بالتفكير بـ «الحل الفيديرالي». إيران مشغولة بقضايا أكبر من سورية. مسرح الشرق الأوسط الجديد. مشغولة في الرمادي والأنبار. في اليمن والبحرين. في أفغانستان. الأولوية الإيرانية للحفاظ على العراق. الإبقاء على «الهدية» المقدمة من واشنطن. التفاهم مع أميركا على المنطقة ضمن مقايضات بين ملفات. وسورية، ملف ليس أكثر. منطلق بحثه الأول هو المصلحة. تحقيق ما يلبي المصلحة الاستراتيجية في سورية كونها «تحفة» النفوذ الإيراني في مد الأوكسجين العقائدي والناري إلى «حزب الله» وتهديد أمن إسرائيل والوصول إلى مياه المتوسط… وتوفير الشرعية وتحصين البقاء في العراق، الحدود الشرقية للعروبة غير المرغوبة.
القرار الجديد الصادر من دمشق، مختصر ومباشر. هناك حوالى ٤٠٠ نقطة اشتباك مع مقاتلي المعارضة. يجب القتال الآن فقط في نصف هذا النقاط. الأولوية النارية للقوات البرية لهذه النقاط وربطها. الانسحاب من المناطق الأخرى «غير المفيدة» يجب ألا يتم سريعاً، بل بعد معارك كي لا تنهار معنويات الجيش. معارك تكتيكية للانسحاب والاكتفاء باحتكار السماء وما تأتي به من حمم و «براميل». التمتع بتفوق النار في الوقت المتبقي للرئيس باراك أوباما في البيت الأبيض. وإذا كان الانسحاب سيتم، فليكن المستفيد والمنتصر هو «التكفيريون والإرهابيون». لا مانع من أن يدخل تنظيم «الدولة الإسلامية» (داعش) إلى مدينة تدمر الأثرية. لا بأس بأن يعبر الصحراء بسلاسة تحت مظلة مقاتلات التحالف الدولي – العربي وغطاء مقاتلات النظام. ولا مانع من الاحتفاء بأن «المنتصر الوحيد» من الانسحاب خسارة محافظة إدلب، هو «جبهة النصرة».
للمصادفة أن الـ٢٥٠ نقطة الاشتباك التي تقرر القتال فيها واعتبارها «أولوية»، تقع في دمشق والقلمون وحمص وريف حماة والريف الغربي لمدينة جسر الشغور بعد سيطرة مقاتلي المعارضة على المدينة. لكنها، ليست مصادفة أن تُدفع القوات النظامية كي لا تكون قادرة سوى على الدفاع عن هذا القوس الاستراتيجي «المفيد» لإيران وليس للسوريين بجميع طوائفهم وانتشارهم الجغرافي. إذاً، هذا هو الإقليم الذي ستقاتل فيه القوات النظامية و «حزب الله» والميليشيا الموالية. بعد الاستنزاف البشري الكبير وتراجع انضمام الشباب في الساحل إلى القوات النظامية، بإمكان القوات النظامية القتال في هذا القوس من دمشق إلى طرطوس ومينائها. الأهم أن استمرارية القتال ستكون معتمدة على الخارج… على المدد الإيراني وتنوعه.
أما الأقاليم الأخرى، فإنها تعتمد على نوع آخر من الدعم. المدد العثماني التركي للفصائل الإسلامية في إدلب وريفها في الشمال، والمدد المريب والمتداخل المركب من الدعم والتواطؤ لـ «داعش» في الرقة ودير الزور والوسط، والمدد الإيراني والإقليمي للأكراد في الجزر الثلاث في الجزيرة وعفرين وعين العرب الممتدة من دون تواصل جغرافي مباشر بين الشرق والشمالي، والمدد الأردني والخليجي لـ «الجيش الحر» في ريفي درعا والقنيطرة جنوباً.
التفاوض بين اللاعبين الإقليميين والدوليين، بات ينطلق من هذا الواقع. الأقاليم ومناطق النفوذ. بعض الأطراف يقول أنه طالما أن الاتفاق الكبير لكل سورية ليس وارداً حالياً بسبب الفجوة بين داعمي النظام وأصدقاء المعارضة، وطالما أن بيان جنيف يقابل بصعوبات في التنفيذ، يبحث لاعبون عن صفقات صغيرة وتفاهمات غير معلنة. يطرح بعضهم معادلة دمشق مقابل حلب. أن تسلم إيران تركيا بالنفوذ في حلب مقابل تعهد داعمي المعارضة بعدم دخول وإرباك أمان دمشق وطريق دمشق – بيروت. يطرح آخرون معادلة: القصف مقابل القصف. وقف النظام إلقاء «البراميل المتفجرة» على مناطق المعارضة مقابل منع المعارضة من تهديد الحاضنة الرئيسية وعصب النظام في مناطقه. هناك من يطرح تفاهماً أساسه جمود الأقاليم في «حدودها» وخطوط النفوذ. ألا تتقدم المعارضة إلى ريف جسر الشغور الغربي وصولاً إلى الساحل وألا تتقدم أكثر في ريف حماة في وسط البلاد، مقابل أن تتوقف القوات النظامية عن السعي الجدي لتهديد وجود بنية تحتية في مناطق المعارضة.
أما الإدارات الذاتية الكردية الثلاث، فإنها تطرح نوعاً آخر من التحدي. يقول معارضون أن «تهجيراً جماعياً» يحصل للعرب السنّة لربط الإدارات من الشرق إلى الشمال. ويتهم هؤلاء التحالف الدولي – العربي بتوفير الغطاء الجوي للكيان الكردي الوليد. في المقابل، يقول أكراد أنهم يعيدون التاريخ إلى أوله. إن بعض التهجير ما هو سوى إعادة عقارب الساعة إلى الوراء وإعادة الأكراد إلى مناطقهم التي هجروا منها بسبب «سياسة التعريب البعثي». هنا، تطرح تساؤلات إلى الحدود التي يمكن أن تقبل بها تركيا، خصوصاً في ضوء رفض الرئيس رجب طيب أردوغان «كردستان جديدة» على ضفة حدود تركيا الجنوبية.
أما الدول الغربية، فإن بعضها يعتقد بإمكانية الإفادة من «الأقاليم السورية» كأداة تفاوضية لإنتاج حل سياسي جامع لاحقاً. يجرى تداول ثلاثة احتمالات: الأول، بعد استقرار الأقاليم وتصليب عود المعارضة فيها، ستتمدد المعارضة ولن تستقر في مناطقها، بل ستضغط للوصول إلى دمشق. يدعو بعض الدول الإقليمية إلى ضرورة أن ينتقل مقاتلو «جيش الفتح» من جسر الشغور إلى الساحل لتحريك الحل الوطني وعدم قبول خيار الأقاليم كوجهة نهائية. يحاجج آخرون بضرورة «فتح معركة دمشق» لحرمان النظام من «عاصمة الجمهورية العربية السورية» والتحدث باسم الدولة ككل.
الثاني، الرهان على أن قبول بعض المسؤولين في النظام فكرة الأقاليم، سيطرح تساؤلات في عقول مسؤولين آخرين في النظام بضرورة التحرك لإيجاد معادلة تعيد «سورية الوطن» وأن يكونوا أكثراً استعداداً لفكرة بدء عملية سياسية تعيد حياكة الخريطة السورية، لاستعادة سورية لاعباً وليس ملعباً ونقطة توازن بين الخليج وإيران وسورية كما كانت في التسعينات، سورية وطناً وليست طوائف.
الثالث، أن ينطلق اللاعبون الإقليميون والدوليون مرة ثانية «من تحت إلى فوق». ليس من الإدارات المحلية والأحياء فحسب، بل من الأقاليم والزعامات المتأتية من الصيغة الجديدة. أي إيجاد صيغة لحل سياسي على المستوى الوطني انطلاقاً من الأقاليم والزعامات المحلية. من هنا، تسارعت التحركات بين واشنطن وموسكو وبين عواصم إقليمية بضرورة استعجال الحل السياسي للحفاظ على ما تبقى من مؤسسات حكومية وروابط بين السوريين. وتطرح سيناريوات عدة، مثل مجلس رئاسي من عسكريين ومدنيين ومرحلة انتقالية لمدة سنتين. مشكلة هذه الاحتمالات كلها، أنها أسيرة القرار الإيراني والرهان على التحرك الروسي.
إلى حين ذلك والاستقرار على حل نهائي، يواصل مسؤولون في النظام مدعمين من إيران وحلفائها التحرك على الأرض لتشكيل «كيان سورية المفيدة» وتشكيل «درع الساحل» والحديث خطابياً باسم «الجمهورية العربية السورية». ويستمر المعارضون مدعومين إقليمياً بتعزيز مواقعهم على الأرض في «سورية الحرة» وتشكيل أذرعها العسكرية ويحلمون بحكم «الجمهورية العربية السورية». لكن الذي يتشكل على الأرض هو «الأقاليم السورية» بعضها «إمارة» تحت عمامة وسيف وبعضها الآخر «إقليم» تحت بوط عسكري وبندقية.
… الغائب الوحيد إلى الآن والمغيب جغرافياً وفكرياً، هو سوريون سعوا إلى دولة المواطنة. موالون تربوا على خطاب النظام «القومي» والأحلام – الأوهام الكبيرة. معارضون ونشطاء نادوا في بداية الثورة بأن «واحد، واحد… الشعب السوري واحد».
ابراهيم حميدي
الحياة