مائدة سورية المسمومة
قرار أميركي ثابت: لا لبقاء بشار الأسد رئيساً لسورية، ولا تغيّر هذا القرار براغماتية تميّزت بها السياسة الأميركية. أقصى ما يمكن هو أن يكمل الأسد ولايته، وإذا تمكّن التعاون الأميركي الروسي من وقف النار وعقد مفاوضات جديدة في جنيف، فسيقود المرحلة الانتقالية مجلس عسكري متوافق عليه من القوتين العظميين ومن القوى الإقليمية ممثلة بتركيا والمملكة العربية السعودية وإيران. وخلال المرحلة ربما يبقى الأسد بصلاحيات رمزية.
لا تزال واشنطن مهتمة بسورية وإن اقتصر وجودها العسكري على مستشارين محدودي العدد. ومن باب الخرافة ما يروّج من أن الولايات المتحدة ستترك المنطقة العربية لتنشغل بالشرق الأقصى. أميركا باقية ليس فقط لحماية ممرات النفط وإنما ايضاً لحماية أوروبا وإسرائيل من تهديدات محتملة إذا سيطر المتشدّدون.
ولأن سورية مائدة مسمومة تحاذر واشنطن الانخراط فيها وتتحرك من مناطق قريبة بضغوط اقتصادية وسياسية، وإذا اضطرت فالقليل من الضغط العسكري عبر قوى معارضة من العرب أو الأكراد.
تترك واشنطن المائدة لموسكو التي أحضرت طائرات وجنوداً إلى الساحل السوري، ولطهران التي جنّدت شيعة من لبنان وأفغانستان وباكستان يقودهم مرشدون إيرانيون. ويتحلّق حول المائدة ايضاً الآلاف من المتطرفين الإسلاميين الذين أغواهم «داعش» و «القاعدة» فاعتبروا سورية أرضهم الموعودة ومنطلقهم لاستعباد المسلمين ومن بعدهم شعوب العالم. هؤلاء المتطرفون أسدلوا الستار على المعارضة السورية لتصبح صورة من الماضي قد تعجز الذاكرة عن استحضارها، وربما تستعين بكتابات معارضين تتناسل من سماء الكلام لا من أرض الواقع. إنه الحنين وقد وجد تعبيره في مقالات سياسية لا في الشعر ولا في الموسيقى.
وتركيا ما بعد الانقلاب الفاشل يتغيّر حضورها حول المائدة السورية لكن ملامحه لم تتبلور بعد. وهي كانت منخرطة في الحرب السورية ووسيطاً لمنخرطين آخرين، حتى إذا حدث الانقلاب الفاشل اكتشفت انها لن تستطيع تصدير مشاكلها الداخلية إلى الخارج كما تفعل طهران وموسكو. إن الجهد الأكبر لرجب طيب أردوغان يتركّز في الشأن الداخلي، ولن تقبل المعارضة التي تضامنت معه ضد الانقلابيين وفتح الله غولن، بحال طوارئ إلى ما لا نهاية.
تطفو مشاكل تركيا الداخلية على السطح بدءاً من طموح أردوغان الى نظام رئاسي وليس انتهاء بعمليات قضم النظام العلماني الأتاتوركي التي يقوم بها الحزب الحاكم. ولن تكتفي المعارضة بأطروحات أردوغان في مديح العلمنة، إنما تريد تطبيقاً في سياسات الحكومة الداخلية. وإذا قبلت عرض أردوغان بأن تكون السياسة الخارجية قراراً وطنياً تشارك فيه الى جانب حزب أردوغان، فهي لن تقبل اعتبار المشاركة رشوة للسكوت عن قضم العلمانية.
تركيا غير مهيّأة لحلف مع روسيا وإيران حول القضية السورية، فثمة فوارق كثيرة تفصلها عنهما، أولها عضويتها في الحلف الأطلسي، وثانيها مراعاتها مصالح الأكثرية العربية السنّية في سورية، وثالثها الرغبة بالحفاظ على علاقة جيدة مع المملكة العربية السعودية ودول الخليج. وربما يتيح «الانسحاب الجزئي» لتركيا من الجبهات السورية، إعادة تموضعها داخلياً وإقليمياً ودولياً، فقد تفاهمت مع روسيا على وحدة سورية وأن لا يقتصر الحكم بعد الأسد على طائفة أو فئة بل يشمل الأطياف الاجتماعية كافة، وأن يتعاون الجميع لعودة النازحين السوريين، خصوصاً أولئك الذين نزحوا إلى بلاد مجاورة. هذه التفاهمات تكتفي بها تركيا حالياً لتنصرف الى معالجة قلقها من حليفها الأميركي الذي يتهمه سيئو الظن بالتحضير لفوضى عبر نصف انقلاب يؤدي الى نصف دولة. هذا هاجس أردوغان في وجهه الوطني التركي لا في وجهه «الإخواني» الذي رفع تركيا عالياً في برج الوهم ثم ألقى بها من أعلى الطوابق.
مائدة سورية المسمومة يتحلق حولها كثيرون فيما الشعب السوري يدفع الثمن أرواحاً وممتلكات، أو يذهب به اليأس إلى هجرة بلا عودة، أو يتخلى عن سلوكه الحضاري لينخرط في كيانات عسكرية تحتل وطنه باسم الثورة أو باسم النظام.