ما هكذا يسقط النظام…
لا مفارقة كبيرة، كما يبدو للوهلة الأولى، في اكتساب الثورة السورية شرعية أخلاقية وعدم اكتسابها في المقابل شرعية قانونية يُبنى عليها. ولا مفارقة كبيرة أيضاً في التقدم الغربي المستجد إزاء مسألة الاعتراف بفلسطين، تماماً في الوقت الذي يظهر كأنه يتجاهل القضية السورية، ويساهم في اصطناع فلسطين أخرى.
لفهم طريقة التفكير الغربية ربما علينا تجريب النظر من زاوية مختلفة، لا تتوقف عند المصالح السياسية المباشرة للغرب وإن كانت تلحظ وجودها، وعلينا من جهة أخرى تقييم مساهمتنا في الموقف الغربي الحالي ومسؤوليتنا الجزئية عن تراجعه.
ليست مصادفة هنا أن تفقد القضية الفلسطينية قدراً كبيراً من وهجها الأخلاقي عربياً مع توقيع اتفاقية أوسلو، ذلك في الوقت الذي بدأت تتقدم فيه أحقيتها الأخلاقية على الصعيد العالمي. وصف اتفاقية أوسلو بالتفريط بالحقوق الفلسطينية، عدا عن كونه من عدة الشغل الأساسية لمحور الممانعة، لا يكفي لتفسير تناقض التوجهين العربي والغربي، إلا من هواة الشتائم وتفسير السياسة بمنطق العمالة. فالقيادة الفلسطينية أحدثت في نهجها الانعطافة المطلوبة دولياً، من حركة تحرر وطني تعتمد الشرعية الثورية إلى حركة استقلال تعتمد الشرعية الدستورية. الفارق بين النهجين لا يتلخص في اعتماد الخيار السياسي، وإنما يتعين في الشكل الملموس من السلطة الذي تمثله الإدارة الذاتية، الشكل الذي «على علاته» كان بمثابة اختبار للفلسطينيين أمام استحقاق الشرعية الدستورية.
الحساسية الغربية تجاه الشرعية الثورية قديمة وغير متعلقة أساساً بالقضايا العربية، وعلى رغم قبول الغرب بأنظمة الأمر الواقع العربية التي حكمت تحت يافطة «الشرعية الثورية»، إلا أنه كان دائماً يشجع على انتقالها إلى الشرعية الدستورية. ينبغي ألا ننسى أن الأنظمة الحاكمة في دول «الربيع العربي» أتت تحت زعم الثورة، واستمرت في الحكم تحت مختلف قوانين الطوارئ المجسّدة لمفهوم الشرعية الثورية، وذلك قبل التحدث عن الأيديولوجيات الشمولية التي تلطت خلفها. الترحيب الغربي الأولي بالانتفاضات العربية لم يكن خبثاً أو مكراً، أتى لأنها حملت شعارات الدولة الديموقراطية ووعدها، لا الشعارات التي درجت عليها القوى الانقلابية، وبلغ الغرب أوج حماسته مع التدخل العسكري المباشر في ليبيا، في أحد الجوانب لأن سلطة القذافي بقيت الأكثر أمانة لمفهوم الشرعية الثورية، بمعنى افتقار نموذج القذافي لمكتسبات مؤسسية تستحق الجهد للإبقاء عليها بخلاف ما هو عليه الحال في مصر وسورية واليمن، أقله من وجهة نظر الغرب.
الإسلام السياسي، وفق هذه الرؤية، هو شرعية ثورية مستدامة لأنها تحكم تحت زعم المقدس، وقد امتُحن الزعم مرتين في ليبيا ومصر، بل كان شريكاً أساسياً في الأولى ضمن عملية إسقاط القذافي وسرعان ما انقلب على الشريك الغربي وعلى الشركاء المحليين. في مصر كانت المسألة أكثر تعقيداً، فثمة رئيس إخواني انتُخب في عملية ديموقراطية حقيقية، وثمة في الخلفية المرشد الذي يمثّل الشرعية الثورية كسلطة تعلو «تنظيمياً» على سلطة الرئيس المنتخب. خطأ الإخوان الكبير أنهم لم يفهموا الرعاية الغربية كما يجب، فلم يتوجهوا على نحو حثيث للتخلي عن الشرعية الثورية والتحول من جماعة «ثورية» إلى حزب دستوري. بدل ذلك، كان هناك مكر واضح في تأسيس حزب دستوري كواجهة هشة، مع الإبقاء على «الجماعة» بصفتها الأصل المهيمن.
في سورية، راهنت المعارضة طوال الوقت على شرعيتها الأخلاقية، على رغم تراجع الأخيرة على أيدي أمراء الحرب من الأفضلية المطلقة إلى الأفضلية النسبية. العالم بغالبيته العظمى يقرّ بالأفضلية الأخلاقية للمعارضة، لكنه لا يتقدم خطوة نحو منحها شرعية قانونية دولية، وإذا تجاوزنا مفاهيم المظلومية الدارجة فسنكون وجهاً لوجه أمام واقع المعارضة: فالشرعية الأخلاقية مكتسبة أصلاً من وحشية النظام وشروره، أي لا فضل للمعارضة فيها، أما الشرعية القانونية فلم تُبنَ يوماً على لاأخلاقية الخصم، وتحتاج جهداً ذاتياً لإثبات الجدارة بها. من هذه الجهة، فشلت المعارضة فشلاً ذريعاً لا يجوز تبريره، فهي لم تقدّم للسوريين أو للعالم نموذجاً متقدماً، ولم تعمل في «المناطق المحررة» على تقديم ولو مثال نظري يثبت أهليتها وجدارتها.
لقد حُكمت المناطق المحررة حتى الآن تحت سلطات الأمر الواقع، وهي سلطات تتمثل أسوأ أنواع «الشرعية الثورية» لأنها تعطّل مجمل المنظومة الحقوقية المدنية وتستبدلها بمنظومة «شرعية»، اعتباطية أحياناً ومنهجية أحياناً أخرى.
ليس للسوريين إرث يعتّد به مع مفهوم الدولة، إذ انقضت شرعية البعث «الثورية» عليه ثم أتى الاستبداد على ما تبقى منه تحت تسمية «سورية الأسد». مع ذلك، ثمة مكتسبات حقوقية للسوريين، يعود تأسيس معظمها إلى مرحلة الانتداب، ويعود بعضها الآخر إلى الحد الأدنى من التطور الطبيعي الذي سمح به نظام الأسد. تلك المكتسبات، على نواقصها وعلاتها، هي ما يعزز فرضية النظام العلماني في مواجهة الأصولية الإسلامية أو التكفيرية، فالفارق فاضح بين مؤسسات دولة في حدها الأدنى وهيئات شرعية «ثورية» تنقض على القليل مما أبقى عليه أو أنجزه النظام. قيادات المعارضة لم تصغِ إلى كل ما قيل ويُقال بين ضرورة الفصل بين النظام الأمني ومفهوم النظام عموماً، حيث يتعين الأول منهما في المستويين الأمني والعسكري وينبغي إسقاطهما لتورطهما في القمع وصولاً إلى الإبادة الجماعية، مع إقامة هيكلية أمنية وعسكرية على عقيدة مغايرة تماماً لجهة خدمة المواطن وحمايته. أما مؤسسات الدولة المدنية ومفهوم النظام ككل فكان ينبغي أن يُتركا لمرحلة التحول الديموقراطي المنشودة، لأن تطويرهما أو التخلص منهما أمر يبتّ به السوريون مع متطلبات عيشهم.
مع تجربة «المناطق المحررة»، ضُيّعت الفرصة لإثبات النوايا الأفضل لمستقبل البلاد، واللوم لا يقع فقط على السلطات العسكرية والهيئات الشرعية فيها وإنما على المستوى السياسي الذي بقي متفرجاً. بل لعب المستوى السياسي دور «الضامن» للشرعية الثورية الجديدة، وعرقل بنفسه الوجه القانوني المطلوب دولياً بواسطة الحكومة الموقتة، فأفرغ الأخيرة من أهميتها واستقلاليتها لتكون مجرد تابع هزيل لـ»الجماعة».
يصادف هذه الأيام مرور سنة على اختطاف رزان زيتونة وسميرة الخليل ووائل حمادة وناظم حمادي، في دوما «المحررة». هذا ما جنته علينا «الشرعية الثورية»، والأكثر فداحة أن هناك من لا يريد أن يتعظ.
الكاتب : عمر قدور
المصدر : جريدة الحياة اللندنية