مذكّرات فاروق الشرع المهمّة: الحاكم، النظام، الدولة[1]

53

ننشر اليوم حلقة أولى من مراجعة الزميل جهاد الزين المطوّلة لكتاب مذكرات نائب الرئيس ووزير الخارجية السوري السابق فاروق الشرع الصادر حديثا[▪]، تليها حلقةٌ ثانيةٌ الخميس المقبل.

سُعِدْتُ – وأعني كلمة “سُعِدْتُ” حرفيّاً – بقراءة كتاب مذكّرات الأستاذ فاروق الشرع الحامل عنوان “الرواية المفقودة” لعدة أسباب:
أولاً – لأنه كتبها وصدرت. وهما بحد ذاتيهما، الكتابة والصدور، مهمّان. أنا عادةً أرحّب بأي كتابة مذكرات كائنا من كان الذي يرويها لأن كل تجربة فردية أيا يكن موقع الفرد عاديا أو مؤثِّراً هي تجربة إنسانية غنية ومفيدة، فكيف حين تتعلّق بشخصية لعبت دوراً سياسياً مرموقا لفترة طويلة ولا بد بالتالي أن تكشف وقائعَ ومعلوماتٍ غير معروفة أو غير مؤكّدة.
ثانياً – لأن فاروق الشرع أظهر امتلاكه لأسلوب سرديٍّ شيِّق ودقيق جعل القراءة ممتعة وغير متعبة حتى عندما تعلّقتْ باستعادة طرح ملفّات تحتاج إلى تركيز مثل جولات ومراحل المفاوضات السورية الإسرائيليّة.
وثالثا لأنّها أكّدت الصورة المنطبعة في ذهني عن سلاسة وتهذيب وطبعاً عصاميّة شخصية فاروق الشرع منذ قابلته مرةً وحيدةً في مكتبه في دمشق كوزير للخارجية في منتصف التسعينات من القرن المنصرم.
رابعاً – وهذا صالِحٌ ليكون أوّلاً – أنني استفدتُ كثيراً من العديد من معلومات هذه المذكرات سواءٌ لفهم أكثر جوّانيّةً لأسس النظام السياسي البعثي في سوريا وبصورةٍ خاصة لعهد الرئيس حافظ الأسد الذي هو نتاج الدور البعثي في تاريخ سوريا المعاصر وفي آنٍ معاً هو، أي حافظ الأسد، مؤسِّسٌ لشخصية سياسية خاصة لهذا النظام كادت تصبح، وربما أصبحت، نظاماً مختلفا.
لا أخفي أنّني كنتُ أقرأ كتاب فاروق الشرع – وقرأتُ سابقاً وسأقرأ لاحقاً أي مذكّرات جدّية وجديرة لشخصيّات أُخرى – وأنا شديد الاهتمام والانتباه إلى هذه الإشكاليّة: إشكالية بعثيّة النظام وإذا جاز لي القول عدم بعثيّته. أين تبدأ الأولى وأين تظهر الثانية وأهمها علويّة النظام. أقول ذلك من موقع خبرتي المتواضعة كمراقب سياسي. وأستطيع القول أيضاً قبل أن أنتقل لعرض مذكّرات الأستاذ الشرع، أننا كمراقبين صحافيّين سياسيّين كنا نخطِئ حين نهمل بعثيّة النظام السوري بمعنى ارتباط تحالفاته ببنية الحزب المتعدّدة المناطق والطوائف ونركِّز على علويّته العسكرية، مثلما كنّا نخطئ بالمقابل حين نهمل علويّة النظام ونركّز على بعثيّته فقط .
أريد أن أذكِّر الأستاذ الشرع، في هذا السياق، بمشهدٍ لم ولن أنسَاه على شاشة التلفزيون وكان هو “بطله”: جنازة الجنرال غازي كنعان في دمشق قبل نقل جثمانه إلى قريته: وقف فاروق الشرع مترئّساً المناسبة وأدلى أمام التلفزيون السوري بتصريح لفتني جدا فيه أنه استخدم تعبير “النظام قوي” في سياق أشبه بالتحاججي. كان ليس مجرد تعبيرٍ سفسطائيٍّ من تلك الكلمات التي تمتلئ بها، أو أصبحت تمتلئ بها، اللغة البعثية في الصحافة وإنما رسالة واضحة لأخصام النظام السوري الكثر في الخارج. وبدتْ لي في وقتها نصيحة مفيدة بسبب ظروف موت الجنرال غازي كنعان عام 2005 وهي ليست ظروف “انتحار” على الأرجح بل من المؤكد أنها تصفية لأن الموت حصل في سياق انشقاق سياسي أو ترتيب بدائل كان غازي كنعان متورِّطا فيه ضد النظام في سوريا وقد أصبح بشار الأسد رئيساً له قبل خمس سنوات. وقتها كانت بيروت وعواصم أكبر وأهمّ من بيروت تعتقد أن هذا النوع من الانشقاقات (ضابط علوي كبير) علامة على بدء ضعف ورثة حافظ الأسد. هكذ ردّ” فاروق الشرع وأمام جثمان كنعان، الضابط المخيف سابقا في لبنان، قائلاً : “النظام قوي”… إذنْ لا تنتظروا سقوطه. وكانت القوات السورية قد انسحبت يومها من لبنان بتلك الطريقة المعنوية المهينة. وأذكر أنني في اجتماع لمجلس تحرير”النهار” برئاسة غسان تويني بعد ذلك الحدث كان رأيي أنه لا يجب انتظار سقوط النظام واقترحتُ قراءة تصريح فاروق الشرع بإمعان لأن الشرع في تلك اللحظة لم يكن فقط ركنا في النظام ولكن أيضا شاهد جوّاني بمعنى قريب جدا ومطّلع جدا على حالة العصب الأمني العلوي الأساسي للنظام.
خلال المذكرات وفي أمكنة متباعدة يذكر الشرع العديد من الأسرار الشخصية أو المعتَبرة أسراراً سياسية شخصية: في مرحلة محاولة رفعت الأسد السيطرة على الدولة معتقدا أن شقيقه الرئيس صار عاجزاً صحّيا وكان الرئيس الأسد قد أبعد رفعت نهائيا عن سوريا بمخرج شكلي كأحد نواب الرئيس… ينقل الشرع عن حافظ الأسد وصفه لشقيقه رفعت بعدما سمع عن صِدامهِ على الطائرة مع الضابط العلوي الآخر المبعَد معه شفيق فياض وعن وصف رفعت للاتحاد السوفياتي في مناسبة رسميّة في موسكو بأنّه “أرض الأنبياء”. يقول الرئيس الأسد للشرع مبتسماً على انفراد: “ألْم أقل لكَ أنه – أي رفعت – سيبقى وَلَداً طائشا”! (ص113).
قبل أن ندخل في بعض التفاصيل التي يتداخل فيها الشخصي بالسياسي والتي “اصطدناها” أحياناً في الكتاب كما يصطاد المرء في بحيرةٍ سمكاً نادراً، يجب التذكير ببعض الأساسيّات وأولها أن هذا كتاب عن عهد حافظ الأسد، قليلاً عن سوريا قبله، وحتى وفاته وإن كان ليس دائماً عنه كشخص إلا حيث يرى الكاتب ضرورةً لنقل لمسة الأسد الشخصية. إنما في كل الملفات حضوره التوجيهي حاسم. لهذا فهو في معظمه كتابٌ عن القضايا الأساسية التي واجهتها الدولة السورية بين عامي 1970 و2000. العلاقات مع الاتحاد السوفياتي، العلاقة المتوتّرة معظم الأحيان مع صدّام حسين، المفاوضات السورية الإسرائيلية التي “لعب” فاروق الشرع دورا طويلا وأساسيّا فيها كلها، العلاقات السورية الأميركية ونوع تطورها وتوازناتها ومعضلاتها وحضورها في كل الملفات لا سيما الاسرائيلية، الملك حسين بن طلال، الرئيس حسني مبارك، ميخائيل غورباتشيف، حزب العمال الكردي وزعيمه عبدالله أوجلان والاتفاق مع تركيا والصراع مع ” الإخوان المسلمين” ووساطة نجم الدين أربكان بين الأسد وبينهم ووو…
قلت “اصطدناها” لأن فاروق الشرع نفسه أراد أن يقدّمها بسبب حساسيتها بصيغة حذرة عليك أن تكون منتبها حين يمرّرها برصانة وبطاقة أسلوبية تخفي أحيانا بعض السخرية.
في حدود قراءتي للكتاب من الغلاف إلى الغلاف أظن أنه لم ترد فيه مرة واحدة كلمة “علوي” أو “سُنّي” وإذا لمْ أكنْ مخطِئاً، لم يرد أي تعريف طائفي إلا بصورة هامشيّةٍ جدا في الكتاب الذي يكتبه بالنتيجة بعثي قديم من مدينة درعا متحدِّر من عائلة مسلمة في المدينة التي تعتبر تقليديا وإداريّاً عاصمة منطقة حوران. ربما فقط في الحديث عن لبنان مرّ شيء من ذلك بحكم تسمية بعض القوى نفسها أو بحكم تسجيل نظرة الفاتيكان إلى “مسيحيّي الشرق”.
دعوني ألاحظ أيضا أن “درعوية” فاروق الشرع هي احدى علامات بارزة في نظام الرئيس حافظ الأسد الذي لعبت فيه دائما شخصيات من منطقة درعا أدوارا مرموقةً من ضمن تشكيلة ريفيّة متعدّدة لمركز السلطة فيها من كل الأرياف الأساسية التي حملها “البعث” إلى دمشق ناهيك طبعاً عن كثافة التشكيل الأمني للسلطة من جبال الساحل العلوية وغيرها. ولا يزال درعويّون إلى اليوم في ظل عهد الرئيس بشار الأسد يحتلّون مواقع فعلية في الدولة والمخابرات والجيش وبعضهم أظهر حماسة كبيرة في الدفاع عن النظام بعد اندلاع ثورة 2011 التي انطلقت، للمفارقة، من درعا ولربما أثّر انطلاقُها من هناك على موقف فاروق الشرع الانسحابي من الصراع وهو ما لا يأتي على ذكره مطلقا في كتابه الذي أراده تأريخا سريعا لمرحلة الخمسينات والستينات من زاوية تجربته السياسية المحدودة وتأريخا مكثّفاً لمرحلة حافظ الأسد.
لم أكن أتوقّع، ولا غيري أيضاً، صورة مختلفة عما نعرف لآلية صنع القرار الرئيسي في عهد حافظ الأسد. فالحاكم الفرد هو الحاكم لكن الكتاب يكشف أيضا عن طاقم سياسي وأمني متمرّس أداره حافظ الأسد في مجالات عديدة لا سيما الخارجية. كان الأسد يوازن أيضا بين معاونين ولو كانوا تحت سيطرته أو كان مطمئنّا لولائهم. ويظهِر حديث فاروق الشرع عن خلافاته مع عبد الحليم خدام منذ عُيِّن وزير دولة للشؤون الخارجية وكان خدام هو وزير الخارجيّة… يُظهِر كيفية موازنة الرئيس الأسد التي يختلط فيها الأبوي بالهيبة بالحزم بين مقرّبيه. يقول الشرع إن الأسد وصف أمامه خدام بـ “شيخ عين التينة” (ص65) وفي هذا الوصف تحبّبٌ وتخفيف من جدّية مواقف نائبه خدام في آنٍ معا في الوقت الذي كان الأسد يفوِّض خدام بالملف اللبناني ما عدا بعض الحالات الاستثنائيّة مثل الصدام الدموي بين حركة “أمل” و”حزب الله” عام 1985 الذي كلّف به الشرع بحضور الإيرانيّين. ومن مآخذ الشرع على خدام في ذلك الملف أن خدام كان يتصل بنبيه بري رئيس “حركة أمل” خلال المفاوضات للوصول إلى اتفاق مع الحزب محرِّضا إياه ضد القبول بأي اتفاق مع أن توجيهات الرئيس الأسد للشرع كانت بعدم إنهاء الاجتماعات حتى يتم هذا الاتفاق (ص121). طبعا من البديهي هنا التذكير بأن التفاوض كان يتم بين تنظيميْن شيعيّين لبنانيّيْن واحد تحت النفوذ السوري الأسدي وآخر تحت النفوذ الإيراني الخميني وهذه معادلة لم تتغيّر إلى اليوم رغم تبدّل الظروف ومواقع بعض شخصياتها قوةً أو ضعفاً أو غياباً. مكان آخر حسّاس أكثر يسجّل فيه فاروق الشرع ملاحظة على نائب الرئيس خدام بأن الأخير كان يتصل به تكراراً ليضعه في صورة ما وصلت إليه المفاوضات مع الأميركيين والإسرائيليين خلال أزمة 1996 التي اندلعت فيها المواجهة بين إسرائيل و”حزب الله” لكي يبلغ خدام معلوماتٍ عنها لرفيق الحريري و السعوديّين (ص351).
من أكثر المقاطع التي تظهر سلاسة وتماسك أسلوب كتابة فاروق الشرع هي المقاطع المتعلّقة بـ”مصرع باسل الأسد”. في هذا الجزء من الكتاب يسجّل فاروق الشرع مع حافظ الأسد لحظة دراميّة تشبه لحظات الذروة في الروايات. فكأننا في رواية لغبريال غارسيا ماركيز أو ماريو فارغاس ليوزا. كيف؟

 

جهاد الزين 

المصدر : النهار