مقتل البغدادي وخطر الانسحاب

119

يمثل مقتل البغدادي أنباء رائعة للعالم المتمدن، وتوضح الغارة الأميركية في عمق شمال غرب سوريا مرة أخرى، التأثير الهائل للقوات الأميركية الخاصة وللمحللين الاستخباراتيين الذين ساعدوا في توجيه عملياتها، وتفاصيل هذه العملية تفصح أيضاً عن حقائق أكبر بشأن سوريا، وعما فقدناه نتيجة الانسحاب الأميركي المفاجئ عبر شمال شرق سوريا مؤخراً، ومازال لدى تنظيم «داعش» الإرهابي نحو 10 آلاف مقاتل في سوريا، لكن بعد خمس سنوات من الضغط المتواصل أصبح التنظيم ضعيفاً وفاقداً للسيطرة على أي أراض.
وربما كان هذا وقتاً مثالياً لتعزيز النجاح، والعمل على ما قد يكون كنزاً من المعلومات الاستخباراتية تم الحصول عليه من المكان الذي كان يعيش فيه البغدادي، ومن المؤكد أن محللينا يعكفون على فحص هذه المعلومات الآن، مما سيقود إلى الخلايا النائمة لـ«داعش» وشبكاتها في سوريا والعراق ومناطق أخرى، لكن انسحابنا المفاجئ من سوريا سيجعل العمل على هذه المعلومات أصعب، فقد تركت القوات الخاصة الأميركية بالفعل مواقعها لمراقبة المعاقل السابقة لـ«داعش»، بما في ذلك الرقة ومنبج، التي تم التخطيط فيها لهجمات إرهابية كبيرة ضد الغرب، وهذه المناطق خاضعة الآن لسيطرة روسيا والحكومة السورية، مما يعرقل قدرتنا على العمل بناءً على هذه المعلومات.
وعلى تركيا أن تقدم تفسيراً لوجود البغدادي في شمال غرب سوريا، على مبعدة أميال قليلة من الحدود التركية، وفي محافظة إدلب التي كانت تحميها نحو عشرة مواقع عسكرية تركية منذ بداية عام 2018، ومما له دلالة أن الجيش الأميركي اختار، بحسب التقارير الصحفية، تدشين هذه العملية منطلقاً من العراق على مبعدة مئات الأميال، وليس من تركيا الحليف في «الناتو»، والواقعة قبالة الحدود مباشرة، وذكرت الولايات المتحدة أنها لم تخطر تركيا بالغارة إلا عندما اقتربت قواتنا من حدودها، وهو إخطار كان من الممكن أن نقدمه أيضاً لروسيا وسوريا.
لقد أصبحت إدلب أكبر ملاذ للإرهابيين في العالم، فعبر تركيا، جاء معظم المقاتلين الأجانب البالغ عددهم 40 ألفاً، والذين تدفقوا إلى شمال غرب سوريا أثناء الحرب الأهلية، وحالياً تسيطر على هذه المنطقة إلى حد كبير الجماعة التابعة رسمياً لـ«القاعدة»، والتي استطاعت البقاء من خلال التجارة عبر الحدود، وتمتعت بعلاقات تكافلية مع جماعات المعارضة المدعومة من تركيا، ووجد البغدادي في هذه المنطقة هو وأسرته، وهذه الحقيقة ما زالت تمثل تهديداً خطيراً للأمن القومي الأميركي، وللأسف، قدرتنا على الحصول على المعلومات في هذه المناطق لا تعتمد على تركيا، بل على حلفاء آخرين هم تحديداً «قوات سوريا الديمقراطية» بقيادة الأكراد، ولا غرابة في أن نسمع تأكيداً من الرئيس ترامب، بأن المعلومات التي قادت إلى البغدادي جاءت من هذه القوات، وهذا كان الحال بالنسبة لكل العمليات المشابهة تقريباً، والتي استهدفت قيادات «داعش» في سوريا.
وساعدت الولايات المتحدة، على تطوير «قوات سوريا الديمقراطية»، التي أصبح قوامها 60 ألف مقاتل، لتكون قوات مشاة لإلحاق الهزيمة بـ«داعش».
وقد سعت الولايات المتحدة، لبناء قوة مناهضة لـ«داعش» بدعم من تركيا، لكن إدارتين أميركيتين متواليتين وجدتا أن قوات مدعومة من تركيا سيكون بها عدد من المتشددين أكبر مما يسمح بالشراكة معها، وتكبدت «قوات سوريا الديمقراطية»، مع مرور الوقت، 11 ألف ضحية، ومع ما حظيت به من دعم كبير من السكان المحليين، مكنت القوات الأميركية من العمل في سوريا بأعداد صغيرة، وبمخاطر محدودة، وكلفة منخفضة.
وكل هذا يوضح أن قرار إخلاء المواقع، والسماح لتركيا بمهاجمة «قوات سوريا الديمقراطية» بقوات المتطرفين التي تدعمهم، يمثل انتكاسة استراتيجية كبيرة، إنه يفكك ما كان منطقة مستقرة في البلاد، ويدفع بنشطاء جدد إلى الذهاب نحو منطقة «داعش» السابقة، ويدفع مئات الآلاف من الأكراد السوريين للفرار بأرواحهم، نحو منطقة كردستان العراق الهشة.
وربما يقلص مقتل البغدادي جاذبيةَ تنظيم «داعش»، وتستطيع الولايات المتحدة العمل مع شركائها حول العالم لتعزيز هذا النجاح، بشن غارات ضد خلايا التنظيم في بلدان أخرى، لكن في سوريا، أصبح تعزيز هذا الإنجاز أصعب الآن، فقد انسحبت القوات الأميركية من المناطق الآهلة بالسكان، لتتحول «قوات سوريا الديمقراطية» إلى روسيا، وتصبح شريكها الجديد في المدن التي كانت تتمتع فيها الولايات المتحدة، قبل شهر فقط، بالدعم المحلي وبإمكانية الحصول على المعلومات الاستخباراتية.
ويستحق الرئيس ترامب، كامل التقدير على العملية التي أدت لقتل البغدادي، لكن المعلومات التي أدت إلى العملية لم تأتيه، فيما يبدو، قبل قراره السحب المفاجئ للقوات الأميركية من شمال شرق سوريا، لأن كل شيء نعلمه عن الغارة يعزز مدى قيمة وأهمية وجود أميركي مستدام هناك.

 

المصدر: الإتحاد

 

الآراء المنشورة في هذه المادة تعبر عن راي صاحبها ، و لاتعبر بالضرورة عن رأي المرصد.