نظام الأسد مستميت على قتل مبدأ «الانتقال السياسي»

49

تسلّطت الأضواء مجدّداً على الجولة الثالثة للمفاوضات السورية في جنيف، وكان واضحاً أن أفقها مسدود، وأنها آيلة الى «التعليق» أو الانهيار. فالنظام يشارك فيها شكلياً، لأن حليفه الروسي طالبه بلعب اللعبة وحليفه الإيراني لم يمانع، لكنه أقبل على التفاوض بأطروحة مستهلكة تفيد بأن النظام قائم وباق، بل إنه أجرى انتخابات صوَرية للمرّة الثالثة طوال الأزمة، وكل ما يستطيع التنازل عنه هو بضع حقائب وزارية للمعارضة في «حكومة وحدة وطنية» لاستئاف الحكم، كأن شيئاً لم يكن، على رغم أن الرجل الباقي أيضاً على رأس النظام هو صاحب «ملف الأسد» الموثّق الذي لا يثبت إجازته الجرائم فحسب، بل يطلب التشدّد بمعاقبة مَن يقصّرون في استخدام أقسى أنواع التعذيب (وفق لجنة العدالة والمساءلة الدولية/ مجلة «نيويوركر»، وتقارير دولية عديدة). ويستند نظام الأسد الى عناصر عدة لدعم موقفه «التفاوضي»: انقلاب المقاربات الدولية من أولوية إطاحته الى أولوية محاربة الإرهاب ومواجهة تدفّق اللاجئين، تحسّن وضعه العسكري بفضل التدخل الروسي، وصلابة الدعم الإيراني. والأهم، أن المحور الأساسي للتفاهمات الأميركية – الروسية («الحفاظ على الدولة والمؤسسات») عنى دائماً ضرورة الحؤول دون انهيار النظام، على رغم عدم تردّده طوال الأزمة في تقويض تلك الدولة والمؤسسات كما في تدمير كل مقوّمات الاقتصاد.

صيغة «الحل» هذه كما عرضها الأسد في خطبه وأعاد الإيرانيون اختراعها في «مبادرة النقاط الـ4» وأيّدها الروس في كل مناسبة، كانت ولا تزال غير كافية وبالغة الانفصال عن طبيعة الأزمة. ليس هذا مشروع حل أو تسوية يعرضه «رئيس» تعلّم مما حصل، فالأسد يقترح فيه مواصلة احتقار شعبه وإخضاع البلد لمصالح حلفائه، مخيّراً المجتمع الدولي بينه وبين «داعش»، ومهدّداً بفوضى عامة في حال سقوطه أو إسقاطه، فوضى أخطر ما فيها سيكون صراع شبّيحته في ما بينهم، فضلاً عن صراعات الفصائل المعارضة نفسها. هذه الاحتمالات تجعل القوى الخارجية متردّدة حيال خيار «هيئة الحكم الانتقالي»، الذي بني أساساً على فرضيتين: الأولى، أن الأسد يريد التنحّي وسيجد في هذه «الهيئة» مخرجاً «آمناً»، والثانية أن الدعم الدولي لـ «الهيئة» سيشكّل ضغوطاً على الأسد تضطرّه للرضوخ والانكفاء… لم يتأكّد أي من الفرضيتين في أي مرحلة، لا في جنيف 2014 بعد القرار 2118 في سياق التوافق الأميركي – الروسي على تدمير الترسانة الكيماوية، ولا في جنيف 2016 بعد ذروة «التوافق» الدولي في لقاءات فيينا والقرار 2254.

ما تأكّد فعلاً، أن العجز عن الحسم العسكري كان انعكاساً للعجز عن الحسم السياسي، والعكس صحيح. ينطبق ذلك على النظام وإيران كما على المعارضة، على رغم أن الأخيرة قدّمت تنازلاً كبيراً بقبولها تقاسم «هيئة الحكم الانتقالي» مع النظام. لكنه عجزٌ ينطبق أيضاً على الولايات المتحدة وروسيا اللتين تتحكّمان بالحركة الميدانية (مع أفضلية انتزعتها روسيا لمصلحة النظام، بموافقة أميركية مشروطة)، ولا تبدوان متحكّمتين بالتحرّك نحو الحل السياسي، سواء لصعوبة توافقهما على صيغة متوازنة لهذا الحل، أو لأنهما تختلفان علناً على «مصير الأسد» وتتفقان ضمناً على ضرورة وجوده في بداية أي عملية سياسية، حتى لو لم يكن تعاونه مضموناً لتحقيق أهدافها. وعلى رغم أنهما توصّلا الى فرض هدنة «وقف العمليات العدائية»، إلا أن استثمارها سياسياً يبدو متعذّراً حتى الآن، مع افتراض أنهما مصممتان فعلاً على إنهاء الصراع، لكن ما أظهرتاه من «إرادة» لا يؤكّد ذلك.

هناك مفاوضات في جنيف لكنها بين الأميركيين والروس، ويتردّد أنهم يبحثون في صيغة لـ «الانتقال السياسي» يمكن فرضها على الطرفين، صيغة لا تتضمّن رحيل الأسد ولا تمنحه «حكومة وحدة وطنية» كما يصفها ويتوقعها إحياءً لـ «شرعيته»، ولا تلتزم حرفية «هيئة الحكم الانتقالي» بل تتجاوزها لمصلحة «حكومة جامعة» وفقاً لصياغات لقاءات فيينا. قد يدعونها «حكومة انتقالية»، لكن المهم ليس اسمها بل وظيفتها، لذلك ينكبّون على صوغ «إعلان دستوري» بمحتوى يتيح لهم الضغط على الدول الداعمة ومن ثمَّ على الطرفين. إذا اتفقت الدولتان الكبريان على هذا «الإعلان»، فإنه ينزع من الأسد ديماغوجية المحاججة بأن «دستور 2012» لا ينص على «انتقال سياسي» (وهل ينص على تشريع جرائم النظام؟)، كما أنه الطريقة الوحيدة لنقل صلاحيات الأسد الى «الحكومة» أو «هيئة الحكم» الانتقاليتين. أما هل تستطيع الدولتان فرض ما تتفقان عليه؟ فهذا سيكون موضع اختبار.

هناك آليات طرحتها موسكو، وأهمها «المجلس العسكري» المشترك بين الجيش النظامي و «الجيش الحرّ» والضباط المنشقّين الذين لم يشاركوا في القتال، وهو يشكّل عيّنة من الأفكار ذات المنحى الانتقالي الواضح، إذ يُفترض أن تكون إعادة الهيكلة محور عمله، وأن تشمل أيضاً أجهزة الأمن. لكنه غير قابل للتفعيل إلا في ظلّ حل سياسي. لكن هناك أيضاً اقتراح الـ «ثلاثة نواب للرئيس تختارهم المعارضة»، الذي وضعه ستيفان دي ميستورا أمام وفد المعارضة، مع «صلاحيات محدودة للأسد في المرحلة الانتقالية». لم يكن المبعوث الأممي يهَلْوِس أو يستخرج الاقتراح من خياله أو من اجتهادات أحد مستشاريه، كما قال، فهو يعرف أن نظام دمشق لن يمرّر له مثل هذا التعرّض لـ «مقام الرئيس». الأرجح، أن موسكو حمّلته هذا العرض كـ «بالون اختبار» يمكن أن يحدث بلبلةً في صفوف المعارضين. لكن المنحى الإغرائي المكشوف أفشل التجربة وأحبط الإيحاء بأن النظام بدأ يفكّر في «تنازلات» لا لدفع الحل السياسي وتسهيله بل لتغيير وجهته، وبالتالي لنسف فكرتَي «الانتقال السياسي» و «هيئة الحكم الانتقالي» من جذورهما.

كان الهدف من «بالون الـ3 نواب» إظهار النظام كأنه ينخرط جديّاً وإيجابياً في المفاوضات، وجعل من فكرة «حكومة وحدة وطنية» خياراً محفّزاً وجذاباً، بحيث يكون دي ميستورا وفريقه جاهزَين لطيّ صفحة «هيئة الحكم الانتقالي» وتوجيه التفاوض نحو «ما يتوافق عليه الطرفان»، وهذا في أعراف الأمم المتحدة أقوى وأعلى من بنود أي قرار دولي.

لكن طبيعة الصراع في سورية حدّدت وجهة بوصلة الشعب في شكل نهائي، فأي طرح لا يلبي مطلب «رحيل الأسد» هو بالنسبة الى المعارضة، أحزاباً وأفراداً، تجاهلٌ لشرعيتها ومشروعيتها. لذلك، أخفق «الاقتراح» الروسي في إضعاف تماسك المعارضة وزاد من تشبّثها بمطالبها، بل إنه على العكس أظهر أمرَين: الأول، أن النظام مستميت للقضاء على مبدأ «الانتقال السياسي» الذي ثُبِّت كاستحقاق سوري (ودولي) لا بدّ منه. والثاني، أن النظام وحلفاءه يعترفون بأن هذه المعارضة التي ميّزت نفسها بوضوح عن الجماعات الإرهابية، والمستعدة للتفاوض، هي التي تخوض الصراع الداخلي، وبالتالي فإن أي اتفاق سياسي في جنيف ينبغي أن يتمّ معها، خصوصاً أنها تمكّنت من فرض احترام الهدنة، وهذا ليس في متناول أي «معارضات» أخرى… لكن هذه المعارضة تعاني، في المقابل، من غياب إرادة دولية، أميركية – روسية تحديداً، لدعم جديّ ومجدٍ لمقتضيات الحل التفاوضي. بل إنها مدركة أن روسيا تدخّلت في الأساس لضربها وتصفيتها تعزيزاً لوضع الأسد ونظامه، وهذا في حدّ ذاته لا يسهّل أي حل بل يقوّضه.

عبد الوهاب بدرخان

الحياة 


ما فعله الصراع في سورية، عدا ارتكابات نظام بشار الأسد من مجازر وتدمير وتصفيات تحت التعذيب، أن استحالة الحسم العسكري فرضت خيار الحل السياسي، لكنّ حلاً كهذا يفترض وجود «قنوات» اتصال بين الطرفين، وهذه مفقودة تماماً بإرادة الطرفين، وحتى الدور الذي يمكن أن يتولاه مستقلّون متعذّر أيضاً، فهؤلاء قد يرغبون في أدائه إلا أنهم يفتقدون اعتراف النظام والمعارضة بهم كـ «وسطاء»… لذلك، استقرّ إنهاء الصراع في كنف القوى الخارجية، وهو يخضع بالضرورة لمصالحها واصطفافاتها وانحيازاتها، فيما أظهرت المراحل المتعاقبة لمحاولات الحسم، عسكرياً أو سياسياً، أن إدارة الأزمة والكلمة الفصل كانتا دائماً لدى الثنائي الأميركي – الروسي.